[تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)]
قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:٣٧ - ٤١].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} الآية، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين, وهو آدم {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:٨]، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:٢٨] الآية، كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه؟! فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد, وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له].
هذه قصة رجلين أحدهما كان كافراً بما أنعم الله عليه وبما أعطاه من الأموال, حتى جره ذلك إلى إنكار الساعة, وشك في القيامة والبعث, ومن شك في البعث فهو كافر بإجماع المسلمين، ولهذا قال له صاحبه: {أَكَفَرْتَ} والكفر في قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} يعني: أشك في قيام الساعة.
ومن شك في القيامة، أو شك في البعث، أو شك في الجنة أو في النار, أو شك في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الرسل، أو في الكتب, أو شك في ربوبية الله, أو إلهيته أو وحدانيته فهو كافر.
فالكفر يكون بالشك, ويكون -أيضاً- بالجحود, فإذا شك في القيامة كفر، وكذلك لو شك في الله أو في ربوبيته أو في أسمائه أو في صفاته, أو في الملائكة أو في واحد منهم, أو في الكتب أو في الرسل، أو في البعث أو في القيامة أو في الجنة أو في النار، ويكون -أيضاً- بالجحود، كما لو جحد ربوبية الله أو إلهيته أو أسماءه أو صفاته, أو اسماً من أسمائه، أو جحد ملكاً من الملائكة, أو جحد كتاباً من الكتب المنزلة, أو جحد البعث، أو جحد القيامة، أو جحد الجنة أو جحد النار, أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه, مثل أن يجحد وجوب الصلاة، أو يجحد وجوب الزكاة، أو يجحد وجوب الحج، أو وجوب الصوم، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام المعلومة بالضرورة, كأن يجحد تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم العقوق؛ فإنه يكفر.
وقد يكون الكفر أيضاً بالقول: كما لو سب الله, أو سب الرسول, أو سب دين الإسلام, أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله فإنه يكفر بهذا القول قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦].
ويكون الكفر أيضاً بالفعل: كما لو سجد لصنم, أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله, أو داس المصحف بقدميه إهانة له، أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر بهذا الفعل.
وقد يكون الكفر بالترك والإعراض أيضاً, كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله به، فإنه يكفر.
وصاحب الجنتين هذا كفر بالشك في القيامة, فقد أعطاه الله تعالى جنتين -أي: بستانين- وحفهما بنخل وزرع، فاغتر ودخل الجنة وهو ظالم لنفسه, أي: بكبره واستكباره وتعاظمه على أخيه.
قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:٣٥ - ٣٦] يعني: ما أظن أن تفنى هذه الجنتان أو أن يصيبهما الفناء {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:٣٦] يعني: لو قدر أن هناك بعثاً فسيكون خير الدنيا موصولاً بخير الآخرة، كما قال الله في الإنسان الكافر في سورة فصلت: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:٥٠]، وكما قال عن العاص بن وائل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:٧٧].
فنصحه صاحبه وقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}؟! والمعروف أن الخائن أقرب ليد الله، وهذا معروف لكل أحد، وكل أحد يعلم بنفسه أنه مخلوق، وأنه لم يخلقه مخلوق مثله؛ لأنه كان معدوماً ثم وجد، فلو لم يكن مخلوقاً لما سبقه العدم، فلابد من أن يكون وجوده بإيجاد خالق، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، فلا يكون المرء خالقاً لنفسه، ولا يخلقه مخلوق.
فلابد من أن يكون مخلوقاً لخالقه واجب الوجود في ذاته سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} ثم قال: (لكنا) أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في النون، {هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لكن أنا أوحد الله واعترف بعبوديته وإلهيته، ولا أشرك مع الله في عبادته أحداً.