[بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:٨٦] أي: فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم].
يعني أن الله أعطى بني آدم من الأسباب ما يناسبهم، وكون الشمس تغرب من وراء ذي القرنين لا يعقل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:٨٦]، أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه].
يعني: أن الشمس في السماء في الفلك، لقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠]، أي: الشمس والقمر، أي: تدور في فلكها وليست نازلة في الأرض، لكن من وصل إلى الساحل ونظر إلى الشمس حال غروبها فيظن أنها غربت في البحر، وهي في فلكها في السماء، مثل من يرى أن طرف السماء وصل بالأرض من البعد، والسماء معروف أن بينها وبين الأرض خمسمائة عام، لكن في مرأى العين يرى شيئاً، والواقع شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحمئة مشتقة -على إحدى القراءتين- من الحمأة، وهو الطين، كما قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:٢٨] أي: طين أملس، وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أنبأنا نافع بن أبي نعيم سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول: (في عين حمئة) ثم فسرها: ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع عن ابن عباس عن أبي بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه: (حمئة)) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وجدها تغرب في عين حامية) يعني: حارة، وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، فأيهما قرأ القارئ فهو مصيب.
قلت: ولا منافاة بين معنييهما؛ إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره].
يعني: تكون حارة لملاقاتها وهج الشمس، وهي حمئة؛ لأنها من طين أسود، فتجمع بين الأمرين: حمئة الطين والتراب، وحارة لملاقاتها شعاع الشمس ووهج الشمس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لـ عبد الله بن عمرو عن عبد الله قال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال في نار الله الحامية: لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض).
قلت: ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم].
يعني: رفعه فيه نظر، وإلا فظاهر السند الصحة، لكن لعل بعضهم وهم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقوف على عبد الله بن عمرو.
وقوله: [مولى لـ عبد الله بن عمرو] فيه جهالة؛ لأنه لم يذكر اسمه، ولعل هذا المولى هو الذي رفعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد -يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر: أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف: (تغرب في عين حامية)، قال ابن عباس لـ معاوية: ما نقرؤها إلا حمئة، فسأل معاوية عبد الله بن عمرو: كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لـ معاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن حاضر: لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في (حمئة)، قال ابن عباس: وإذا ما هو؟ قلت: فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة، قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود، قال: فدعا ابن عباس رجلاً أو غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل).
وقال سعيد بن جبير: (بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:٨٦] قال كعب: والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحداً يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء).
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) قال: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب].
ومعنى: (تجب) تسقط وتغرب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:٣٦]، يعني: سقطت على الأرض.
يعني أن هذه المدينة قريبة من مغرب الشمس، ولولا أصوات الناس لسمعوا وجبتها وسقوطها عند الغروب.
وفي السند كعب، وهو يأخذ عن بني إسرائيل، وكان من أهل الكتاب فأسلم في زمن عمر بن الخطاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:٨٦] أي: أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:٨٦] معنى هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي: استمر على كفره وشركه بربه، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، قال قتادة: بالقتل، وقال السدي: كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا].
يعني: كان يحمي لهم قدر النحاس ويلقيهم فيها، وهذا هو الأقرب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وهب بن منبه: كان يسلط الظُلْمَة فتدخل أفواههم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم، والله أعلم].
يعني أن الله تعالى أخبر بأنه كان يعذب، قال عز وجل: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف:٨٧]، والله أعلم بكيفية العذاب، لكن الظاهر أن العذاب هو القتل؛ لأن جزاء المشرك القتل لا تسليط الظُلْمة عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، أي: شديداً بليغاً وجيعاً أليماً، وفيه إثبات المعاد والجزاء].
والجزاء والمعاد من الأصول التي جاءت بها الأنبياء جميعاً؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء والحساب والجنة والنار أمور مجمع عليها، وأصول اتفق عليها الأنبياء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} [الكهف:٨٨]، أي: تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:٨٨]، أي: في الدار الآخرة عند الله عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٨]، قال مجاهد: معروفاً].