[بيان معنى قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما)]
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا)، وذلك أنه كان قد أُمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة].
(ثَمَّ) ظرف مكان، يعني: فهو هناك.
والمعنى: إذا فقدت الحوت فستجده هناك.
وهذه علامة جعلها الله لموسى لما قال: يا رب! أين أجده؟ فقال: في مجمع البحرين.
وجعل الله له ذلك علامة، وهي فقد الحوت، فإذا فقده رجع إليه ليجد هذا العبد - الخضر - هناك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب، وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)، أي: مثل السراب في الأرض].
وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرته العظمة، ودليل على البعث، فإن هذا الحوت كان مملوحاً ومشوياً فأحياه الله، فاضطرب ودخل في البحر، وقد كان هذا الحوت المملوح المشوي غداءً لموسى ويوشع بن نون يحملانه في مكتل، فلما ناما أصابه رشاش من هذه العين، فأحياه الله، فاضطرب فقفز، و (طفر) بمعنى: (قفز) فقفز من المكتل وسقط في البحر وجعل يمشي فيه، وأمسك الله جرية الماء، كما جاء في بعض الآثار من أن الماء أصبح مثل الطاق يشاهده يوشع، وموسى عليه الصلاة والسلام نائم، وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرة الله العظيمة، وأنه لا يعجزه شيء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، وهو دليل على البعث وعلى أن الله يحيي الأرض بعد موتها، وهذه إحدى القصص التي فيها إحياء الله للموتى.
وقد ذكر الله في سورة البقرة قصصاً أحيا الله فيها الموتى، منها قتيل بني إسرائيل، فقد أحياه الله لما ذبحوا البقرة وضربوه بشيء منها.
ومنها: أن بني إسرائيل أصابتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله بعد أن ماتوا، قال الله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:٥٦]، وذلك لما ذهبوا مع موسى وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فجعل موسى عليه الصلاة والسلام يبتهل إلى ربه ويسأله حتى أحياهم الله.
وكذلك الذين خرجوا من ديارهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣].
وكذلك قصة عزير الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله هو وحماره، ثم أحياه الله وأحيا له حماره وهو ينظر إليه، وقد أماته الله مائة عام، وكان معه طعامه وماؤه فلم يتغيرا، ووجد أن فاكهته بعد مائة سنة على حالها لم تتغير، ولم يكن يوجد برادات ولا ثلاجات، وإنما الله تعالى لا يعجزه شيء.
وكذلك طيور إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد سأل ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠]، فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وكان موقناً مصدقاً، ولكنه أراد أن ينتقل من درجة إلى درجة؛ ليترقى في المراتب من رتبة إلى رتبة، فأراد أن ينتقل من رتبة العلم إلى رتبة المعاينة؛ لأن رتبة المعاينة فوق رتبة العلم، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيصرهن أي: يقطعهن، فقطع الطيور الأربعة، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، وأخذ الرءوس بيده، فصارت تتطاير وهي جثث، فإذا ركب الرأس الذي ليس له امتنع حتى تأتي الجثة التي له فيركب فيها، وهذا من آيات الله العظيمة.
وهذه القصة التي في سورة الكهف هي منها، وهي أن الله أحيا الحوت الميت المشوي الذي كان غداءً لهم، فأحياه الله بمجرد ما أصابه رشاش من هذه العين، فاضطرب وقفز من المكتل وسقط في البحر، وأمسك الله جرية الماء عنه، حتى صار مثل الطاق، وشاهده يوشع وهو يسير في البحر.
ثم أنساه الله ذلك فنسي، وهو إنما جاء مع موسى لهذه المهمة، فقد كان عمله أن يحمل الغداء، ومع ذلك نسي وقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:٦٣] وهذه الآية فيها دليل على أن عدو الله الشيطان يتسلط على الإنسان فينسيه، وفيها أنه قد يتسلط على الأنبياء وغيرهم، فسارا يوماً وليلة حتى أصاب موسى النصب، فقال: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)؛ لأنه جُعل له علامة، فرجعا فوجدا الخضر هناك، كما جاء في الآثار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال ابن عباس: صار أثره كأنه حجر].
أي: مثل الطاق.
يعني: لما دخل الحوت في البحر صار أثره كأنه حجر، فكان أثره فرقاً في البحر مثل الطاق يشاهد، والماء لا يلتئم، ومشى الحوت مسافات ويوشع يشاهده.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة.
وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: (ما انجاب ماء منذ كان الناس)].
قوله (انجاب) أي: وقف الماء حتى صار كالطريق للحوت، يقول: ما انجاب الماء ولا انفتح إلا لهذا الحوت المذكور في هذه القصة.
قال: [(ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))].
يعني: حتى رجع موسى وأراه يوشع الطريق، فقد كان الطريق مفتوحاً بعد أن سار فيه الحوت، كأنه طريق في البحر، فقد وقف الماء عن يمينه وعن شماله.
ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو ثقة.
فقوله: (غير مسير ذلك الحوت الذي فيه) يعني: أن الماء سنة الله فيه أنه يمشي ولا يقف، فلم يقف إلا في هذه الحادثة، فقد انجاب وانفتح وانقبض وتجمع يميناً وشمالاً حتى صار كالطريق وكالكوة، وهذا من آيات الله العظيمة؛ لأن سنة الله الكونية في البحر أنه يمشي ولا يقف، ومثل هذا ما حدث عندما أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وذلك لما تبعهم فرعون ومن معه، فصار اثني عشر طريقاً، وصار كالطود، أي: كالجبل، فقد صار يبساً في الحال، وأصبح طريقاً، وأصبح الماء عن اليمين وعن الشمال كالجبال، فدخل بنو إسرائيل هذه الطرق، فتبعهم فرعون وجنوده، فلما اكتمل خروج موسى وقومه من الجهة الأخرى، ودخل فرعون وجنوده فيه؛ أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته فانطبق عليهم، وهذا من آيات الله العظيمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البر] يعني: قفز من المكتل وهو في البر فسقط في البحر [ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقًا فيه إلا صار ماء جامداً].
وهذا فيه من آيات الله العظيمة وقدرته، فمن ذلك أن الله تعالى أحيا هذا الحوت بعد أن كان مشوياً مملوحاً معداً للأكل.
وأمسك الله جرية الماء، فصار طريقاً، قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق البحر وخلق الحوت، وسخر البحر، فبيده كل شيء، وبيده السنن الكونية، سبحانه وتعالى فلا يعجزه شيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (فَلَمَّا جَاوَزَا) أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونسب النسيان إليهما -وإن كان يوشع هو الذي نسيه- كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:٢٢]، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين].
يعني: نسبه تغليباً، فقال: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) مع أن الذي نسيه هو يوشع، فقال: (نسيا) بالتثنية من باب التغليب، وإلا فالذي نسيه هو يوشع؛ لأنه كان هو الموكل بهذا الأمر، وقد أتى معه لهذه المهمة.