للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق)]

قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أطلعنا عليهم الناس ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك].

وهذا قول الفلاسفة يقولون: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وهذا كفر وضلال بإجماع المسلمين، فمن قال: إن الجسد لا يبعث فهو كافر بإجماع المسلمين ونص القرآن.

قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:٧] أمر الله نبيه أن يقسم ويحلف على القيامة والساعة في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز، هذا الموضع الأول في سورة التغابن.

الموضع الثاني في سورة يونس: قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:٥٣] يعني: البعث بعد الموت، {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:٥٣] أمره أن يحلف ((قُلْ إِي وَرَبِّي)).

الموضع الثالث في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:٣].

فهذه المواضع الثلاثة أمر الله نبيه فيها أن يقسم على الساعة والبعث.

فمن أنكر بعث الأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين، والفلاسفة ينكرون البعث، كـ ابن سينا، وبعض الناس يقولون: إنه الفيلسوف الإسلامي، واغتر به بعض الصحفيين والمذيعين فقالوا: الفيلسوف الإسلامي، وهو كافر ملحد أنكر البعث.

ويقول عن نفسه كما نقل ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا اليوم الآخر، ولا القدر، نسأل الله السلامة والعافية! وهو الذي حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام؛ لأن ابن سينا يسمى المعلم، ولو سميت باسمه المدارس ومستشفيات فهو ملحد، وهو طبيب أيضاً له كتاب: القانون في الطب، لكنه ملحد حاول أن يجمع بين الفلسفة والإسلام، فـ أرسطو وهو المعلم الأول للفلاسفة المتأخرين، ثم أبو نصر الفارابي المعلم الثاني، ثم المعلم الثالث أبو علي ابن سينا حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام، لكنه في محاولته الشديدة لم تصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغالية في التجهم أشد وأصح مذهباً من مذهب ابن سينا.

فالفلاسفة ينكرون بعث الأجساد ويقولون: البعث إنما هو للأرواح، والذي فتح لهم الباب الجهم بن صفوان؛ لأن الجهم بن صفوان قال: إن هذه الأجساد إذا بليت لا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى.

فـ الجهم يقول: هذه الأجسام تستحيل تراباً ولا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن معناه: تبعث أجساد أخرى ما عصت الله وتكون في النار والعياذ بالله! وهذا معناه أن يوصف الله تعالى بالظلم.

فهذه الأجساد -الذرات- التي استحالت يعيدها الله، فالإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو آخر فقرة في العمود الفقري، فهذا لا تأكله الأرض وإنما يبقى، فمنه خلق ابن آدم كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب) ويعيد الله الذرات التي استحالت تراباً كما أخبر الله سبحانه.

قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩] فهو سبحانه عليم بالذرات التي استحالت فيعيدها، حتى ولو استحالت تراباً، ولو أكل الإنسان السباع، وأكلت السباع سباع أخرى، أو أكلته الحوت وأكل الحوت حوت آخر، أو صارت المقبرة في مزرعة وزرعت.

فالله تعالى يعيد الذرات التي استحالت خلقاً جديداً، نفس الذوات هي هي! ولكن تبدل الصفات، فينشأ الناس تنشئة قوية يتحملون فيها الوقوف يوم القيامة هذه المدة الطويلة، ويتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فالصفات هي التي تبدل.

وكذلك الأرض قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَوَات} [إبراهيم:٤٨]، تبديل صفات لا تبديل ذوات، وبين الله هذه الحكمة من اطلاع الناس على أهل الكهف: ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها، ليعلموا أن وعد الله حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وكأن أهل ذلك الزمان شكُّوا في البعث وفي القيامة، فأطلع الله عليهم أهل الكهف؛ ليعلموا أن وعد الله حق، وليعلموا صحة البعث، فالذي أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين ثم أيقظهم قادر على أن يبعث الإنسان بعد موته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها؛ فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة].

يعني: أنهم دخلوا عند طلوع الشمس واستيقظوا عند غروبها، فظنوا أنه يوم واحد، كيف تغيرت الدار في يوم واحد؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً فسألوه عن أمره، وهو من أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز وممن أنت؟! فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس؛ فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس؛ ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل.

فالله أعلم.

قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بكهف في بلاد الروم فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير.

وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:٢١] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:٢١] أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.

{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:٢١] أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم.

{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١].

حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم، والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها] ولا شك أن الذين قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١] فهو مخطئون سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك، فإن قيل: إنهم مسلمون فهم عصاة، وإن قيل: إنهم كفار فلا إشكال، لكن إذا كانوا مسلمين فهم عصاة؛ لأن هذا من وسائل الشرك، فبناء المساجد على القبور والجلوس عندها وكتابة الأسماء عليها، ووضع الزهور والرياحين، وبناء القبب، كل هذه من وسائل الشرك.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).

فلعل الذين أمروا بأن يتخذ عليهم مسجداً هم أصحاب الكلمة