هذه السورة الكريمة ذكر الله تعالى في مطلعها قصة زكريا عليه الصلاة والسلام، وأنه سأل الله الولد مع تقدم سنه وكبره، وكانت زوجه عاقراً، فأجاب الله دعاءه، وفيه دليل على أن الإنسان يلجأ إلى الله ويسأله دون يأس، فالإنسان محتاج إلى الله في جميع أحواله، حتى الأنبياء، وفيه دليل على أن الملح في الدعاء على الله يحصل على مطلوبه، وقد جاء في الحديث:(ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما يصرف عنه من السوء مثلها).
والدعاء عبادة لله تعالى وإقرار بربوبيته واعتراف منك -أيها العبد- بعبوديتك وأنك عبد ضعيف ذليل ترجو عفو الله، وترجو بره وإحسانه حتى ولو لم يجب دعاءك، فأنت مثاب على هذا الدعاء؛ لأنك تتعبد لله بالدعاء، فإما أن تعجل لك الدعوة فيستجيب الله لك، وإما أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإما أن تعطى من الخير مثلها، بشرط خلوها من موانع الدعاء، كأن يدعو الإنسان بإثم أو بقطيعة رحم، أو يدعو بقلب غافل.
ثم ذكر الله بعد ذلك قصة مريم وابنها، ثم ذكر قصة إبراهيم ودعوته أباه، ونصحه له بأربع نصائح وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه آزر، قال تعالى عنه:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:٤٢ - ٤٥].
وهذه نصيحة عظيمة وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه؛ لأنه أحق الناس ببره وإحسانه، فدعاه إلى الله عز وجل، دعاه إلى التوحيد، ولكن الله لم يقدر له الهداية، وفي هذا حكمة بالغة، حيث يبتلى الرجل الفاضل والعالم الكبير أو النبي بابن كافر، أو بأب كافر، أو بأولاد عصاة، أو بزوجة كافرة، وهذا من الابتلاء بالمصائب، كما ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي لهب، فكان يتبعه في مواقف دعوته، ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب.
ولم يقدر الله الهداية لعمه أبي طالب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على هدايته، حتى سلاه الله عز وجل بقوله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص:٥٦].
وبين الله تعالى أنه عوض إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بأولادٍ أنبياء صالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وذلك بسبب إخلاصه لله وتوحيده له ومقاطعته لأهل الشرك.
ثم ذكر الله قصة موسى وهارون، ثم قصة إسماعيل، ثم إدريس عليهم السلام، ثم ذكر الله بعد ذلك قصة الكافر الذي قال:{لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}[مريم:٧٧] وبين الله قبل ذلك أنه لا بد من المرور على الصراط، وأنه لا ينجو إلا المتقون، وبين سبحانه تسليطه الشياطين على الكفار تؤزهم أزاً.
وبين مصير المؤمنين الموحدين، ومصير الكفار، وأن الكفار يساقون إلى النار سوقاً، وأن المؤمنين لهم الجنة والكرامة، وبين سبحانه أن المؤمنين توضع لهم المحبة، وأن الله يجعل لهم في القلوب محبة ومودة في الدنيا، وهذا من البشرى العاجلة لهم، وبين سبحانه في هذه السورة أن القرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمؤمنين المتقين، ونذارة لمن خالف أمر الله، ولم يقبل هدى الله، ثم توعد سبحانه وتعالى المنحرفين والصادين والمعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بالعذاب والهلاك، وأنه أهلك من كان قبلهم، فلم يعلم لهم أثر ولا عين، قال تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}[مريم:٩٨].