تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً)
قال الله تعالى: [{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:٨٦ - ٨٩].
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:٨٦] أي: بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم، وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه، وسخافة عقولهم وأذهانهم.
(غضبان أسفاً)، والأسف: شدة الغضب.
وقال مجاهد: ((غَضْبَانَ أَسِفًا)) أي: جزعاً.
وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده.
((قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)) أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله جل وعلا؟ ((أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ)) أي: في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) (أم) هاهنا بمعنى: بل، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا -أي: بنو إسرائيل- في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم].
قرعهم يعني: وبخهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا)) أي: عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر.
((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها عنا، وقد تقدم في حديث الفتون: أن هارون عليه الصلاة والسلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار، وهي في رواية السدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجراً واحداً حتى إذا رجع موسى عليه الصلاة والسلام رأى فيه ما يشاء، ثم جاء بعد ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوة، فدعا له هارون عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم ما يريد، فأجيب له، فقال السامري عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلاً، فكان عجلاً له خوار، أي: صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً، ولهذا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه:٨٧ - ٨٨].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن البختري، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هارون عليه الصلاة والسلام مر بـ السامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع.
فقال هارون: اللهم! اعطه ما سأل على ما في نفسه، ومضى هارون عليه الصلاة والسلام، وقال السامري: اللهم! إني أسألك أن يخور فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رءوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد، وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر].
وهذا فيه ابتلاء من الله كما قال الله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:٨٥].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان يخور ويمشي، فقالوا -أي: الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه-: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) أي: نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس رضي الله عنهما].
وقد سول لهم الشيطان ذلك، وهذا من العجائب، كيف تصل عقولهم إلى هذا التفكير وعندهم نبي كريم وهو هارون، وشاهدوا بأعينهم إهلاك الله لبني إسرائيل وفرعون والقبط، وشاهدوا كيف أنعم عليهم هذه النعم العظيمة، ومع ذلك عبدوا العجل، فبمجرد ما إن ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة إذا بهم يعبدون العجل، ومعهم هارون لكنهم استضعفوه ولم يسمعوا كلامه، وكادوا يقتلونه، وقالوا: إن موسى نسي إلهه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه قال مجاهد، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَنَسِيَ} أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم].
فالقول الأول: أنه نسي إلهه ههنا، والقول الثاني: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:٨٨]، قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، يعني: مثله].
وهذا معنى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:٩٣]، وفي الآية الأخرى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:٩٣] يعني: حب العجل، نعوذ بالله، فهذا من الابتلاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله: ((فَنَسِيَ)) أي: ترك ما كان عليه من الإسلام -يعني السامري -.
قال الله تعالى رداً عليهم، وتقريعاً لهم، وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: العجل، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:٨٩] أي: في دنياهم ولا في إخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيسمع له صوت، وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري رحمه الله: أن هذا العجل اسمه بهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب -يعني: هل يصلي فيه أم لا-؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين - وهم يسألون عن دم البعوضة].
وهذا فيه بيان أن بني إسرائيل والعياذ بالله تورعوا بزعمهم، وأنهم أخذوا هذا الحلي من القبط، ويريدون أن يلقوها عنهم؛ لكي يتخلصوا من حق الغير من باب الورع، فلما ألقوها عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك الذي هو أعظم، فتورعوا عن الأمر الحقير ووقعوا في الشيء الكبير، مثل أهل العراق فقد جاءوا يسألون ابن عمر يقولون: إذا أصاب ثوب الإنسان دم البعوضة فهل تصح الصلاة فيه أم لا تصح؟ أي: هل يصير الثوب نجساً؟ وهم قتلوا الحسين ابن بنت رسول الله، فتورعوا في الشيء القليل وتركوا الشيء العظيم.
نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الآية استدل بها العلماء على إثبات كلام الله عز وجل، وأن صفة الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:٨٩] فكيف يعبدون العجل وهو لا يكلمهم؟! وقال العلماء: إن بني إسرائيل مع كفرهم، وكونهم وقعوا في الشرك والكفر، وعبدوا العجل، صاروا أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في هذه الحالة، فقد قال المعتزلة: إن الله لا يتكلم، وقال الله: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) إنه لا يتكلم، فلو كانوا ينكرون الكلام لقالوا: وربك لا يتكلم أيضاً، لكنهم سكتوا، فالمعتزلة وقعوا في هوة سحيقة في هذه المسألة جعلتهم تحت اليهود الذين عبدوا العجل، فهم أحسن حالاً من هذه الجهة.