للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فارهبون)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:٤٠] أي: فاخشون.

قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم].

جمع له سبحانه بين الترغيب والترهيب، وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون راجياً خائفاً، فيجمع بين الرجاء والخوف، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠]، وقال سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [السجدة:١٦]، فالمشروع للمؤمن الواجب عليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في سيره إلى الله، وفي عبادته لربه عز وجل، فلا يقنط من رحمة الله فيغلب جانب الخوف، ولا يغلب جانب الرجاء فيأمن مكر الله؛ لأنه إذا غلب جانب الرجاء أمن مكر الله واسترسل في المعاصي، وإذا غلب جانب الخوف قنط ويئس وتشاءم وأساء الظن بالله.

وفيه دليل على أن الرهبة إنما هي عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، والرهبة هي الخوف، والخوف الذي هو العبادة خاص لله، ولهذا قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يعني: ارهبوني، ولا ترهبوا غيري، فالرهبة وخوف العبادة لا يكون إلا لله، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك، وأما الخوف الطبيعي كالخوف من السبع أو من عدو معه سلاح أو من البرد فيلبس ليستدفئ أيام الشتاء، فهذا خوف طبيعي، فالخوف من العدو الذي أسبابه ظاهرة كما قال الله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:٢١] لا بأس به، وأما خوف السر كالذي يخاف من الميت في سره، أو يخاف من غائب ليس معه أسباب فهذا شرك، فخوف العبادة هو خوف السر كالذي يخشى من الميت أن يضره بسره لا بشيء ظاهر، ويخشى منه أن يسلط عليه عدوه، أو يحرمه دخول الجنة، أو يقطع رزقه بسره لا بشيء ظاهر، فهذا خوف العبادة، وخوف العبادة صرفه لغير الله.