[اختلاف العلماء في معنى الرحمن والرحيم]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل: هما بمعنى واحد كندمان ونديم].
أي: أن الرحمن والرحيم معناهما واحد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:٤٣].
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي: أكثر رحمة.
ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا: لعله أرفق كما في الحديث: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهكذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)].
أبو صالح الخوزي: يروي عن أبي هريرة وأبي المليح الفارسي، وهو مختلف فيه، قال ابن معين: ضعيف كما في التهذيب.
والحديث بسنده: حدثنا قتيبة أخبرنا حاتم بن إسماعيل عن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد روى وكيع عن غير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال في حديث آخر: حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو عاصم عن حميد بن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
فهذا الحديث قد تشهد لها أصول الشريعة، فلابد من سؤال الله في الصلاة مثلاً: رب اغفر لي، فالمعنى له أصل ولابد للمسلم أن يسأل الله، ولا يمكن أن يظل طوال عمره لا يسأل ربه.
فالرحمن رحمة تشمل المؤمنين والكفار، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:٤٣]، فالله تعالى رحم المؤمنين رحمة خاصة، فهداهم ووفقهم للإيمان وتاب عليهم.
والرحمن رحمته عامة تشمل المؤمنين والكفار، فمن رحمته بالكفار أن خلقهم وأوجدهم ورزقهم، ومن رحمته بهم أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، فهم يعبدون غيره ويشركون به ومع ذلك يحلم عليهم سبحانه وتعالى ويرحمهم.
واستشكال الخطابي في قول ابن عباس لا وجه له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض الشعراء: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب.
وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: {الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١] قال: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين، قالوا ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:٥٩].
وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي].
والعرزمي هو: عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي بمهملتين ثم معجمة الفزاري أبو محمد بن ميسرة الكوفي أحد الأئمة، روى عن أنس وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين والنسائي، وضعفه يحيى في رواية، قال أحمد: ثقة يخطئ، وضعفه شعبة من أجل الحديث الذي رواه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وانفرد به عن عطاء، قال الترمذي: وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم واحداً تكلم فيه غير شعبة، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة خمسة وأربعين ومائة.
إذاً: هو ثقة، وشعبة رحمه الله من المتشددين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سمعت العزرمي يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣]، قال: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة:٣] لجميع الخلق، {الرَّحِيمِ} [الفاتحة:٣] بالمؤمنين، ولهذا قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:٥٩]، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن؛ ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:٤٣] فخصهم باسمه الرحيم.
قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة؛ لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين].
فالرحمن رحمة عامة للمؤمنين والكفار، وحتى الكفار بعد دخولهم النار يرحمهم الرحمة العامة، فعند دخولهم يلهجون بحمده وأنه سبحانه وتعالى عادل في قضاءه وحكمه فاعترفوا بذلك {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:١٠ - ١١]، فـ (الرحمن) رحمته شاملة للمؤمنين والكفار، ولأهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين.
ومعنى أن الرحمن أشد مبالغة أي: فيه مبالغة في المعنى من بلوغ الشيء نهايته، فقد بلغت الرحمة كمالها ونهايتها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما).
واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:١١٠]].
(رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) هذا عند الدعاء، لكن إذا كان على صيغة الخبر فالرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:٤٥]، ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمان اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب].
معنى تجهرم: هاجم الاسم الكريم، ويحتمل أنها: تجهضم.
وهذا من غطرسته وكبريائه وجبروته وجرأته العظيمة.
والحضر من أهل المدر أي: الطين، وهي بيوت الطين التي يسكنها أهل المدن، والبوادي بيوت من خيام، فأصبح معروفاً بالكذب بين البوادي وبين أهل المدن.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد].
وهذا القول ضعيف.