بيان معنى قوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا، ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:٤٠]، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:٤٧] إلى قوله {حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، والآيات في هذا كثيرة].
والله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه الظلم فقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠]، وهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه تنزه سبحانه وتعالى عن الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، كأن يُنقص أحداً من ثوابه وحسناته، أو يحمله أوزار غيره، فهذا تنزه عنه سبحانه وتعالى، وأمن عباده منه وهو قادر عليه، ولهذا قال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢]، وقال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٧].
وفي الحديث القدسي: عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فالظلم مقدور لله، إلا أن الله حرمه على نفسه ولم يحرمه عليه أحد، وليس فوقه أحد، بل هو حرمه على نفسه من نفسه، وتنزه عن الظلم ونفاه عن نفسه، وقالت الجبرية من الجهمية وغيرهم: إن الظلم غير مقدور لله، ففسروا الظلم بأنه الذي لا يدخل تحت القدرة، وقالوا: كل ما يقدر الله عليه فله أن يفعله، ولا يكون ذلك ظلماً، وقالوا: إن الله تعالى له أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة حراماً والزنا واجباً، ويبطل حسنات الأبرار والمتقين والأنبياء، ويحملهم أوزار الفجار، ولا يكون هذا ظلماً؛ لأنه له أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأن الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه، والله مالك كل شيء، فإن تصرف في ملكه فلا يكون ذلك ظلماً، هكذا يقولون، وهذا من أبطل الباطل، ومعناه أنه ليس هناك معنى للظلم عندهم، والظلم هو الذي لا يدخل تحت قدرة الله كالجمع بين الضدين، والجمع بين الممتنعين، وكالمستحيل الذي لا يمكن وجوده، هذا هو الظلم، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان الظلم لا يدخل تحت القدرة لما أمن الله عباده، قال: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١١٢].
فهل يخاف الإنسان الشيء الذي لا يدخل تحت القدرة؟! أي: أيخاف المستحيل؟! لا يمكن هذا، وهذا من أبطل الباطل، والصواب أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا هو المعنى اللغوي، كأن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثوابه وحسناته، فقد تنزه الله عن هذا الفعل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد، حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب: فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه].
حذف حرف الاستفهام للعلم به، فقال ابن عبد الله؟! يعني: أأنت جابر بن عبد الله؟! فقال: نعم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة -أو قال: العباد- عراة غرلاً بهماً، قلت: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء.
ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)].
قوله: (عراة) يعني: لا ثياب عليهم، أي: كما ولدتهم أمهاتهم، ولكنهم شاخصة أبصارهم، فلا أحد يستطيع أن ينظر إلى أحد.
فهم عراة لا ثياب عليهم، وحفاة لا نعال لهم، وهم ليس عندهم شيء، ولا يوجد معهم شيء.
قوله: (ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، هذا فيه إثبات الصوت لله عز وجل، وفيه رد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: كلام الله معنى قائم بنفسه، ليس بحرف ولا صوت، وفي هذا الحديث أن كلام الله حرف وصوت، وأنه يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وكلام الله بخلاف كلام المخلوق، فكلام المخلوق يسمعه القريب فقط، وأما البعيد فلا يسمعه، وأما كلام الله فيسمعه من بعد كما يسمعه من قرب على حد سواء.
قال: [(ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه).
].
وهذه اللفظة يصلح فيها (أقضيه) (أقصه)، ولكن الثابت في الحديث (أقصه) أي: أقتص له حقه.
قال: [(ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة.
قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)].