للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:١٠٢]، اختلف الناس في هذا المقام: فذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية، أعني التي في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢] قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢]].

يعني أن فيها أقوالاً: القول الأول: أن (ما) نافية، فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢] يعني: وما أنزل الله على الملكين شيئاً، ولم ينزل الله على الملكين السحر.

والقول الثاني -كما سيأتي- أن (ما) موصولة بمعنى الذي، والتقدير: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذي أنزل على الملكين.

فعلى القول الأول يكون المعنى: أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر، وأما على القول الثاني فتكون (ما) موصولة، وتكون تابعة، فيكون المعنى: اتبع الناس ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على الملكين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢]، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله وجعل قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢] بدلاً من الشياطين.

قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:١١]، أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه].

هذا قول القرطبي، وهذا قول ضعيف، والصواب هو القول الثاني، وهو أن (ما) موصولة، وهو قول أكثر المفسرين، فالآية فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن (ما) نافية، والثاني: أن (ما) موصولة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} الآية، يقول: لم ينزل الله السحر.

وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال: ما أنزل الله عليهما السحر.

قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا؛ يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت].

يعني أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر على هذا القول، فقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢] أي: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين السحر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون قوله: (ببابل هاروت وماروت) من المؤخر الذي معناه المقدم.

قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:١٠٢] من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود -فيما ذكر- كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما: هاروت، واسم الآخر: ماروت، فيكون (هاروت وماروت) على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم.

هذا لفظة بحروفه].

يعني أن المراد بالناس هاروت وماروت، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل، وتكون الآية نافية، والمعنى: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين -يعني: جبريل وميكائيل- السحر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢] قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر].

وهذا ضعيف منقطع؛ لأن ابن أبي حاتم قال: (حدثت)، وفضيل بن مرزوق ضعيف، وعطية العوفي أيضاً شيعي مدلس.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى -يعني ابن أسد - أخبرنا بكر -يعني: ابن مصعب - أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبد الرحمن بن أبزي كان يقرؤها: (وما أنزل على المَلِكَين داود وسليمان)، وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي.

رواه ابن أبي حاتم.

ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً].

ولا شك في أن هذا غريب جداً؛ لأن فيه أن الله أذن لهما أن يعلما الناس السحر، وهذا لا يليق.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم.

وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين) ويقول: هما علجان من أهل بابل.

ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:١٠٢]، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:٦]، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:٢٥]، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:١٣]، وفي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً) وكما يقال: أنزل الله الخير والشر.

وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا: (وما أنزل على الملِكين) بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما: داود وسليمان.

قال القرطبي: فعلى هذا تكون (ما) نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:١٠٢]، و (ما) نافية.

قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢]، فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما؟ ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما.

فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.

ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان؛ إني آمنت به.

وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أُنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان.

وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذٍ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق.

وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:٣٤]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى، وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي].