للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم)]

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: غطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٩٦ - ٩٧].

وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:١٤٥] الآية.

أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:٨]، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:٤٠]، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:١٢].

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول)].

المراد بالذكر الأول: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن الكفار ستروا الحق وغطوه وهو توحيد الله عز وجل، فلم يوحدوا الله، ولم يعبدوه، بل عبدوا معه غيره، وهذا الحق هو أعظم الشروط، فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، فهؤلاء الكفار غطوا الحق وستروه، وهذا أصل الكفر، فالكفر معناه: الستر، ومنه سمي الزارع كافراً؛ لأنه يستر الحب ويبذر في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] فالكفر في اللغة: الستر، والكافر جاحد للحق، جاحد لتوحيد الله عز وجل.

والله تعالى هنا يسلي نبيه، ولهذا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] إذ من كتب الله عليه الشقاوة فلا خير فيه، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص أشد الحرص على هدايتهم، حتى إنه كان يضر بنفسه ويكاد يهلك نفسه، قال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦]، وقال سبحانه: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:٨]، وقال سبحانه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، وكذلك جميع الرسل عليهم البلاغ، وكذلك الدعاة والمرشدون والمصلحون عليهم البلاغ، أي: التبليغ والإنذار، وبيدهم هداية الدلالة والإرشاد.

أما التوفيق والإلهام، وكون المرء يقبل الحق ويرضى به ويختاره فهذا إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار لا ينتفعون بالإنذار والمواعظ، وهذا هو وصفهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦].

فينبغي للمسلم أن يحذر من صفات الكفار والمنافقين، وأن يتأثر بالمواعظ فينتفع بها ويستفيد منها حتى لا يتشبه بالكفرة، فالكفار لا ينتفعون بالمواعظ، والمؤمنون ينتفعون بالموعظة، قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:٥١].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:٦] أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك؟ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، وقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك؟! وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم:٢٨ - ٢٩]، والمعنى الذي ذكرناه أولاً، وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها.

والله أعلم.

].

ورواية علي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وهذا الحديث في قادة الأحزاب، والأحزاب المراد بهم: الكفار الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وتألبوا عليه عليه الصلاة والسلام وحاصروا المدينة، وسميت هذه الغزوة غزوة الأحزاب لأن الكفار تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وأتوا وحاصروا المدينة، ولكن الله أبطل كيدهم، وسلط عليهم ريحاً وجنوداً لا يراها المؤمنون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:٩].

وما نقله المؤلف عن ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس أن المراد: قد كفروا بما عندهم من ذكرك معناه أن الآية في أهل الكتاب السابقين، والصواب أن الآية عامة تشمل مشركي العرب وكفار أهل الكتاب.

والأصل أن يؤخذ بعموم اللفظ، ولا يخصص إلا بدليل، فالآية شاملة للكفرة جميعاً من مشركي العرب، ومن أهل الكتاب ومن غيرهم، وهذا وصفهم، وهو وصف منطبق عليهم، أي أنهم لا ينتفعون بالمواعظ، وكذلك وصفهم بأن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجوا، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: ألا أخبركم؟ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: أجل)].

وهذا الحديث في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف وإن صرح بالتحديث، لاحتراق كتبه في آخر حياته، إلا أن المعنى صحيح لا شك في أن هؤلاء هم أهل النار، والصحابة ليسوا منهم، والمسلمون -كذلك- ليسوا منهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦] محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:٦]].

أي: مؤكدة لـ (كفروا) في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))؛ لأن الكفار لا يؤمنون، ونفى عنهم الإيمان كله، ففي الجملة الأولى أثبت لهم الكفر، وفي الجملة الثانية نفى عنهم الإيمان تأكيداً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هم كفار في كلا الحالين، فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: ((لا يُؤْمِنُونَ))].

أي: في حالة الإنذار وحالة عدم الإنذار، فهم في كلتا الحالتين كفار، نسأل الله العافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحتمل أن يكون ((لا يُؤْمِنُونَ)) خبراً؛ لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:٦] جملة معترضة.

والله أعلم.

].