للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين ما ورد عن السلف من تحرجهم من التفسير وما روي من أقوالهم في التفسير]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه].

الأمر كما ذكر المؤلف رحمه الله، فكل ذلك محمول على أنهم كانوا يتحرجون عن الشيء الذي لا علم لهم به، أما الذي عنده علم بالشيء الواضح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتكلم ولا يكتم العلم، فهذه الآثار محمولة -كما ذكر المؤلف- على التحرج عن الشيء الذي لا يعلمه الإنسان، فلا يتكلم بشيء لا يعلمه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه].

هذا هو الجمع بين النصوص، فالصحابة جاءت عنهم نصوص فيها المنع من التفسير، ونصوص أخرى فيها جواز التفسير، فالنصوص التي جاء فيها المنع من التفسير محمولة على التفسير الذي لا يستند إلى علم، فلا ينبغي أن يتكلم المرء في شيء لا يعلمه، والنصوص التي فيها أنهم كانوا يفسرون محمولة على أنهم كانوا يفسرون بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واللغة العربية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧]، ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد بن الزبيري حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل عليه السلام)، ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي عن معن بن عيسى عن جعفر بن خالد عن هشام به، فإنه حديث منكر غريب، وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه.

وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث.

وتكلم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى مما وقفه عليها جبريل، وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس فيما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله].

أي: أن التفسير منه ما تعرفه العرب من كلامها، ومنه ما لا يعذر أحد بجهالته لوضوحه، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا} [البقرة:٤٣] وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢]، وقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:١٣٠] وهناك تفسير لا يعرفه إلا العلماء، وهناك تفسير لا يعلمه إلا الله، فبعض الآيات لا يعلمها إلا الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وقد روي نحوه في حديث في إسناده نظر: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي أنبأنا ابن وهب قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب)].

هذا الحديث ليس بصحيح، فرواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة جداً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي، فإنه متروك الحديث، لكن قد يكون إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس كما تقدم، والله اعلم].

محمد بن السائب الكلبي متروك، أي: أن حديثه ضعيف جداً وقريب من الوضع، فيكون قد وهم في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه من كلام ابن عباس.