[توجيه ابن جرير لما قيل في (الم) وتعقب ابن كثير]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته، كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال: ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك، كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معانٍ كثيرة، كلفظة الأمة، فإنها تطلق ويراد بها الدين، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:٢٢]، وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:١٢٠]، وتطلق ويراد بها الجماعة، كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:٢٣]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:٣٦]، وتطلق ويراد بها الحين من الدهر، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:٤٥] أي: بعد حين على أصح القولين، قال: فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجهاً].
هذا كلام ابن جرير رحمه الله، وهو أنه لا مانع من أن تكون هذه الحروف المقطعة من أسماء الله ومن أسماء السور، مثل لفظ (الأمة) يأتي لمعان متعددة، إلا أن هناك فرقاً بين المسألتين، وذلك أن لفظ الأمة لا يدل على هذه المعاني في وقت واحد، بل يدل على واحد منها بحسب السياق، فتأتي في سياق بمعنى الجماعة، وتأتي في سياق بمعنى الدين، وهكذا.
أما هذا التوجيه الذي وجهه ابن جرير فمعناه أن هذه الحروف هي أسماء للسور، وهي في نفس الوقت أسماء لله، وهي في نفس الوقت تفيد المدد والآجال، فالتنظير ليس مماثلاً، كما تعقب الحافظ رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معاً، ولفظة (الأمة) وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الإصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم.
ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به، وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف، بخلاف هذا، كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني: وقفت].
قوله: [فقالت قاف]، أي: قالت: وقفت.
فاختصر الكلمة واكتفى بذكر الحرف لدلالة ما قبله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من (يفعل).
وقال الآخر: بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا يقول: وإن شراً فشرا، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، أي أنه حذف بقية الكلمة واكتفى بالحرف الأول.
ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله اعلم].
فحمل الحرف الواحد على معانٍ متعددة مثل (الم) في نفس السياق يحتاج إلى دليل كما ذكرنا، مع أن هذه الأقوال كلها ليس عليها دليل، فالصواب هو القول الأول، وهو أنه لا يعلم معانيها إلا الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) الحديث، قال سفيان: هو أن يقول في اقتل: (اق)، وقال خصيف عن مجاهد أنه قال: فواتح السور كلها (ق) و (ص) و (حم) و (طسم) و (الر) وغير ذلك هجاء موضوع.
وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً، كما يقول القائل: ابني يكتب في (أب ت ث)، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين، فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.