للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ورد بها حديث معاوية]

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا الحديث رواه الشافعي، ثم قال: فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه: الوجه الأول: أنه قد روي عن أنس الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة التي ترد هذا، وهي:: (كان الرسول يسر ببسم الله الرحمن الرحيم).

الوجه الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفة طائفة, وقد اضطربوا في روايته إسناداً ومتناً كما تقدم, وذلك يبين أنه غير محفوظ.

الوجه الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع وسوء الحفظ.

الوجه الرابع: أن أنساً كان مقيماً في البصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحداً علمناه أن أنس كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.

الوجه الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت في المدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة, وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها، ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك, والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.

الوجه السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة, لكان هذا أيضاً معروفاً من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية، بل إن الشاميين كلهم: خلفاءهم وعلماءهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، بل إن الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك فلا يقرؤها سراً ولا جهراً, فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغيرُ عن وجهه, وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح, فحصلت الآفة من انقطاع إسناده.

وبهذا يتبين أن حديث معاوية لا يصح، فيكون العمدة على حديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة.

وقيل: إن هذا الحديث -حديث معاوية - لو كان تقوم به الحجة لكان شاذاً؛ لأنه خلاف مارواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذاً ولا معللاً، وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.

يعني: هذا الحديث لو صح واستقام سنده يكون شاذاً؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة؛ لأن من شرط الحديث الصحيح ألا يكون شاذاً، وألا يخالف الثقة من هو أوثق منه, وأنس وأهل المدينة مقدمون على حديث معاوية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليقها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر.

وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل].

وهذا هو الأرجح والمعتمد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً، واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢]).

وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون: بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:٢] ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١] في أول قراءة ولا في آخرها)، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه].

ولكن الذي قال به مالك من أنه لا يقرأ جهراً ولا سراً ضعيف, وأما حديث عائشة: كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله، يفتتح الصلاة بالتكبير، ويجهر بالقراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١]، ولا ينفي هذا أن يقرأها سراً.

وكذلك حديث أنس: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:٢]) ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١] في أول قراءة ولا في آخرها) يعني: لا يجهرون؛ ولهذا جاء في الروايات الأخرى: (كانوا يسرون)، وعلى ذلك فيكون هذا القول بأنه لا يقرأ بها لا سراً ولا جهراً ضعيف، وهذه الأدلة التي استدلوا بها ليست واضحة, وإنما فيها نفي الجهر وليس فيها نفي أنهم لا يقرءون بها سراً، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: (كانوا يسرون).

ورواية مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١]) أعلها ابن عبد البر بالاضطراب، وأن مسلماً أخرجها مكاتبة عن الأوزاعي حيث إن قتادة كتب للأوزاعي بهذا الحديث.

وهو قوله: (ولا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١] في أول قراءة ولا في آخرها)، فطعن فيها ابن عبد البر وقال: بالاضطراب، وابن حجر استدل في البلوغ برواية ابن خزيمة.

وأخرج ابن حجر في بلوغ المرام رواية ابن خزيمة: (أنهم كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:١])، ولم يتكلم عليها.

وسند ابن خزيمة: حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال حدثني سريج بن عبد العزيز عن عمران القصير عن الحسن عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسرون).

وذكر المزني في التهذيب الكلام في تلاميذ سريج بن عبد العزيز أحمد بن أبي سريج، وقال سويد بن عبد العزيز الدمشقي: متروك، وكذبه غير واحد، واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ذكر قول ابن حبان: يؤخذ منه ما تابع فيه الثقات، وما خالف يترك, قال: لا ولا كرامة.

لكن هذا يحتاج إلى رواية مسلم، وكتابة قتادة للأوزاعي قال: كتب لي فإذا كانت كتابة قد يحتج بها, لا أدري هل هو منقطع.