[تفسير قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني)]
قال الله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:٢٧ - ٢٨].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه كما سيأتي بيانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢] أي: يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:٢٧] قال: حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي.
وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك.
فقال القرظي: يا ابن أخي! ألست أفهمك إذا حدثتُك؟ قال: نعم، قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلل عقدة من لسانه؛ كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ولم يزد عليها.
هذا لفظه].
وهذا الإسناد منقطع في الموضعين، في قول ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان، وفي قول أرطأة بن المنذر: حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب.
وفي هذه الآية الكريمة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يشرح له صدره، وأن ييسر له أمره؛ لأنه أرسله بأمر عظيم، فقد أرسله بالنبوة والرسالة، وأرسله إلى أعظم ملوك أهل الأرض في زمانه، وأكثرهم عتواً وجبروتاً وطغياناً وهو فرعون ملك مصر، فقد ادعى الربوبية، وأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، فقد أنكر الرب العظيم تكبراً مع أنه كان مستيقناً في الباطن، كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤]، وصار فرعون إماماً في الضلال يقود إلى النار، كما قال الله عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:٤١]، وصار كل إمام ضلال وإمام انحراف وإمام فساد ينسب إلى فرعون، ولهذا الجهمية الذين ينكرون علو الرب ينسبون إلى فرعون، فمن أنكر العلو فهو جهمي فرعوني، ومن أثبت علو الرب وأن الله في السماء فهو موسوي محمدي ينسب إلى موسى ومحمد عليهما السلام، ففرعون أنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وعذب بني إسرائيل وسامهم سوء العذاب، وأخاف الناس، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٤].
وفي إحدى الليالي رأى فرعون رؤيا أن ملكه سيزول على يد رجل من بني إسرائيل، فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل، فقيل له: إنك إذا ذبحت بني إسرائيل لا تجد يداً عاملة؛ لأنهم هم اليد العاملة الذين يخدمونه، فأمر أن يذبحوا في سنة ويتركوا في سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان لحكمة أرادها الله، ولما خافت أم موسى على وليدها ألهمها الله بأن تضعه في تابوت وأن تلقيه في اليم، فذهب اليم بهذا التابوت حتى أوصله إلى دار فرعون، فأخذته امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها، فقالت لزوجها فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:٩].
قال: إني أخشى أن يكون هذا هو الذي يكون هلاكي على يديه، قالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:٩] فتربى في حجر فرعون وهو يخاف منه، فتربى موسى في حجر امرأته في بيته وترعرع وأصبح شاباً، وقد خرج يوماً فوجد رجلين يقتتلان: إسرائيلي وقبطي، فاستغاثه الإسرائيلي على القبطي، فوكزه موسى فقضى عليه وقتله، فجاء رجل من المدينة يسعى قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:٢٠]، وهذا الفعل من موسى كان قبل النبوة، وإلا فالأنبياء معصومون من الشرك ومن الكبائر بعد النبوة، ثم ذهب إلى فلسطين واجتمع بالرجل الصالح، واتفق معه على أن يرعى له الغنم ثمانِ سنين أو عشر سنين ويزوجه إحدى ابنتيه، فرعى له الغنم هذه المدة وتزوج، ثم أخذ أهله وسار بها إلى جانب الطور، وكانت ليلة باردة كما أخبر الله في أول الآيات، وكان قد ضل الطريق فوجد ناراً قبله قرب جبل الطور، وقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي أجد خبراً، أي: أحداً يدلنا على الطريق أو آخذ جذوة من النار لتصطلون وتستدفئون بها، فلما جاء إلى الطور كلمه الله ونبأه وبعثه وأرسله إلى فرعون، فسأل ربه أن يشرح صدره، وأن ييسر له أمره، وأن يعينه على هذا الأمر العظيم، فقد أرسل إلى جبار لا يبالي بالقتل والبطش، جبار ادعى الربوبية، ويسوم الناس سوء العذاب، كيف وموسى قد قتل رجلاً منهم أيضاً وهو مطلوب من أجله، فالله سبحانه وتعالى يسر له أمره، وشرح صدره وحل عقدة من لسانه وقوى أزره بأخيه هارون، واستجاب الله طلبه وجعله نبياً مثله وأعانه، وقال سبحانه وتعالى لموسى وأخيه: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦] فذهبا إلى فرعون، وكان من أمرهما ما قص الله علينا في كتابه كما سيأتي.