للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كينونة نور الآخرة على قدر نور الدنيا]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك].

أي أن نورهم في يوم القيامة يكون على حسب نور الإيمان في الدنيا، كما قال سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:٨]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:١٢]، فمن كان قوي الإيمان حركه هذا الإيمان صاحبه إلى العمل الصالح والاستجابة والانقياد لأوامر الله وترك نواهيه، فيكون نوره قوياً يضيء له فراسخ، ومن ضعف إيمانه في هذه الدنيا ضعف نوره يوم القيامة حتى يكون كنور المنافقين الذين لهم نور يخبو ثم ينطفئ، نعوذ بالله.

وبعضهم من أول مرة ينطفئ نوره، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:١٣]، وذلك أنهم لما كانوا مع المؤمنين في الدنيا وكانوا يشاركونهم في العبادات كانوا معهم في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الطويل أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (نتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله.

فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ويدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن مريم، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة، ولا ولد، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها؛ فيتجلى الله لهم، فيسجد المؤمنون، ويريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود، ويكون ظهر كل واحد منهم طبقاً واحداً، كما قال سبحانه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:٤٢])، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط وكل واحد معه نور، فينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، نسأل الله العافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣]].

قوله تعالى: ((انظرونا)) ليس المراد به النظر، بل المراد الانتظار، أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم، فقيل لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في حق المؤمنين: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحديد:١٢]، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨] ذكر الحديث الوارد في ذلك: قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)): ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه)].

أي: منهم من يكون نوره طويلاً إلى عدن أبين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من نوره دون ذلك، لكن هذا الأثر عن قتادة مقطوع، وفيه -أيضاً- إبهام، فلا يعتمد عليه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه.

وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة].

وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى.

وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)).

وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا))].