[تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)]
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١١ - ١٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] قال: هم المنافقون، أما (لا تفسدوا في الأرض) قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية].
هذه الآية في أوصاف المنافقين، وقد سبق الكلام على أن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه السورة الكريمة ببيان صفات الطوائف الثلاث، وأن الله تعالى ابتدأها ببيان الطائفة الأولى وهم المؤمنون باطناً وظاهراً، وذكرهم في أربع آيات: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٣ - ٥].
فبين سبحانه وتعالى أنهم أهل هداية وأهل فلاح بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٥] فهؤلاء حصلت لهم الهداية والفلاح.
ثم ذكر الطائفة الثانية في آيتين، وهم الكفار باطناً وظاهراً، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٦].
ثم ذكر الطائفة الثالثة، وهم الكفار باطناً المظهرون للإسلام ظاهراً في ثلاث عشرة آية لشدة خطرهم، ولشدة التباسهم، وجلى الله تعالى صفاتهم في مواطن أخرى كثيرة من القرآن الكريم، ومنها في أثناء السورة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:٢٠٤]، وذكرهم -أيضاً- في سورة النساء، وفي سورة التوبة التي تسمى الفاضحة، فقد أكثر تعالى فيها من قوله: (ومنهم) حتى خشوا أن يسموا بأعيانهم، وكذلك في سورة النور، وفي سورة كاملة تسمى سورة المنافقون، وفي سورة محمد، وفي كثير من السور.
فهنا بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر بقلوبهم، وأن في قلوبهم مرض النفاق، ومن أوصافهم -كما في هذه الآية- أنهم يسمون الفساد صلاحاً، فيفسدون في الأرض بالمعاصي والكفر وإشاعة الفساد بين المؤمنين، ويسمون هذا صلاحاً.
وهم موجودون في كثير من الأوقات، وهم في هذا الزمن -أيضاً- موجودون، وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسمون بالمنافقين، ثم بعد ذلك كانوا يسمون بالزنادقة، وفي هذا الزمن يسمون العالمانيين، فالعالماني هو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} [البقرة:١١] قال: يعني: لا تعصوا في الأرض.
وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة.
وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:١١] قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون.
وقد قال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن سلمان الفارسي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] قال سلمان: لم يجيء أهل هذه الآية بعد.
وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان في هذه الآية قال: ما جاء هؤلاء بعد].
هذا فيه نكارة؛ لأن أهل هذه الآية كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السند فيه عنعنة الأعمش، وفيه -أيضاً- عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي وهو ضعيف من الثانية.
فهذه الرواية ضعيفة وفيها نكارة، ولا شك في أن المنافقين في زمن النبي من أهل هذه الآية، والآية تشملهم وتشمل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، فكل من اتصف بهذا الوصف هو من أهل هذه الآية، وكل من أفسد في الأرض بالمعاصي ونشر الفساد بين الناس وسماه صلاحاً هو من أهل هذه الآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد].
هذا تأويل ابن جرير، فلو صح هذا الأثر فإن تأويله هو أن الذين يأتون من بعدهم يكونون أشد ممن سبقهم.