للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صور من عنت بني إسرائيل تجاه نبي الله موسى عليه السلام]

هذا تعنت من بني إسرائيل في سؤالهم موسى أن يريهم الله جهرة، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:٥٥]، فهذا من عتوهم وتعنتهم، فإنه لا يمكن لحي أن يرى الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى الكليم ربه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣] قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] يعني: لن تستطيع أن تتحمل الرؤية في الدنيا، ولهذا قال الله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:١٤٣]، لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يثبت لرؤية الله، وهو من الحجارة الصم! فكيف يستطيع البشر أن يثبتوا لرؤية الله؟! لا يستطيعون، لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فتبدل الصفات، وتكون أبصارهم قوية، وأجسامهم قوية تتحمل الرؤية، وأما في هذه الدنيا فلا يستطيع أحد أن يرى الله، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي اللفظ الآخر: (نور أنى أراه) يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي الحديث الآخر في حديث أبي موسى كما في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ: النار-، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام يشمل جميع الخلق.

فالصواب أن الله تعالى لن يراه أحد في الدنيا حتى نبينا صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض الصحابة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والصواب الذي عليه الجمهور والذي تدل عليه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وإنما سمع كلامه ولم يره، ويدل على هذا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٥١]، فالله تعالى كلم نبيه صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وكلم موسى كذلك، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يراه، وإنما الرؤية نعيم خاص بأهل الجنة.

وبنو إسرائيل لهم تعنتات على أنبيائهم وعلى نبيهم موسى عليه السلام، وهذا من تعنتاتهم، فهم لما سألوا الرؤية عاقبهم الله بالصاعقة، وهي رجفة أصابتهم فماتوا، ثم أحياهم الله؛ ليستكملوا بقية آجالهم، فموسى عليه الصلاة والسلام ناجى وسأل وتضرع إلى ربه أن يحييهم فأحياهم، كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:١٥٥] أي: أصابتهم الصاعقة فماتوا، {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:١٥٥]، فلم يزل يتضرع لربه حتى أحياهم الله، وامتن الله تعالى عليهم بذلك، كما في هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:٥٥ - ٥٦] يعني: اذكروا نعمتي عليكم حيث سألتم موسى رؤية الله جهرة فأخذتكم الصاعقة، ثم بعثتكم من بعد موتكم، فهذه امتن الله بها عليهم، وهذا لم يحصل لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل لآبائهم وأجدادهم، لكن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد والأولاد، {إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [البقرة:٥٥ - ٥٦] أي: اذكروا نعمة الله حين عاقبكم بالصاعقة والرجفة لما سألتم شيئاً ممنوعاً على أهل الدنيا، ثم امتن الله عليكم فأحياكم واستكملتم آجالكم.

وقال تعالى في سورة النساء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:١٥٣].