للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف أهل الكتاب وغيرهم في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:٣٧]، أي: اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية].

نسأل الله العافية، وقبح الله اليهود يقولون: إنه ولد بغي، والنصارى قالوا: إنه ابن الله، فالنصارى غلوا فرفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية، واليهود قبحهم الله هبطوا به وتنقصوه، ورموه بالعظائم حتى قالوا: إنه ولد زنا والعياذ بالله، وهدى الله المسلمين، فقالوا فيه المقالة التي قالها الله في كتابه، قالوا: إنه عبد الله ورسوله نبي كريم خلقه الله من أم بلا أب، أمه مريم البتول وليس له أب، خلقه الله بكلمة كن، قال له: كن فكان، كما أنه قال لآدم: كن فكان، ليس له أب ولا أم، وحواء خلقت من آدم وليس لها أم، خلقت من ذكر بلا أنثى وسائر الناس خلقوا من ذكر وأنثى، فتمت القسمة الرباعية.

قال: [فصممت طائفة وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر].

هذا كلامه حين تكلم في المهد قالوا إنه سحر، كيف يكون سحراً وهو طفلٌ يتكلم وأنطقه الله آية وتبرئة لأمه،.

قال: [وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله].

نعوذ بالله هذه طائفة الاتحادية والملاحدة الذين يقولون: الوجود واحد يقولون: تكلم الله، فهم من أكفر خلق الله، يقولون: العبد رب والرب عبد، كما قال رئيسهم ابن عربي الطائي: والعبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، وهذه الطائفة الذين يقولون: إن الذي تكلم إنما هو الله، ومقتضى هذا القول يتمشى مع قول الاتحادية الذين هم أكفر خلق الله والعياذ بالله، رئيسهم ابن عربي الطائي، ولهم مؤلفات الآن تحقق وتطبع طباعة فاخرة في ورق فاخر موجودة في مصر وفي غيرها، وابن عربي رئيس وحدة الوجود، وله مؤلفات تسمى فصوص الحكم، والفتوحات المكية كلها كفر وضلال ومعارضه للقرآن، وسميت فصوص الحكم؛ لأنه يعارض القرآن، وفي فص قصة نوح أتى بخزعبلات وأمور باطلة، يقول: إن نوحاً يظهر بمظهر الله، وفرعون يظهر بمظهر الله وهكذا نعوذ بالله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، كفر وضلال لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، لولا أنه موجود ومكتوب ومسجل ومؤلف ومطبوع، وهناك من يدافع عنهم ويقول: إن هؤلاء أولياء، فهذا القول يتمشى مع هذا القول.

قوله: [وقال آخرون: هو ابن الله].

وهذا قول النصارى قبحهم الله، وهذا من اختلاف الأحزاب في عيسى، منهم من قال: إنه ولد البغي وهذا قول اليهود، ومنهم من قال: إنه ابن الله وهذا قول النصارى، ومنهم من قال إن المتكلم هو الله وهذا قول الاتحادية الذين يقولون بوحدة الوجود.

قال: [وقال آخرون: ثالث ثلاثة].

أيضاً هذا للنصارى، أنهم قالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا: والآلهة ثلاثة: الله، ومريم، وعيسى، وقد كفرهم الله في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:٧٣]، ثم عرض عليهم التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:٧٤] قال العلماء: التوبة لا يحجب عنها أحد، إذا كان الله تعالى عرض التوبة على المثلثة وذنبهم عظيم؛ فالتوبة معروضة لكل أحد، مقبولة من كل أحد، ومن تاب تاب الله عليه، وذلك إذا تاب قبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، أما إذا سيقت الروح ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:١٨]، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وقال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:١٥٨]، جاء في تفسير البعض أنها طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان.

قال: [وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله].

وهذا هو الحق، وهو قول المسلمين وهذا هو الذي قرره تعالى في كتابه.

قال: [وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.

قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:٣٤] قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع].

امتروا يعني: شكوا فيه.

قال: [فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية].

كل هذه من طوائف النصارى، فاليعقوبية طائفة من طوائف النصارى والنسطورية كذلك.

قال: [فقال الاثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه؟ فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله، قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظهروا على المسلمين، وذلك قول الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:٢١]، وقال قتادة: وهم الذين قال الله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:٣٧]، قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً.

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريباً من ذلك، وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم].

وقد ذكر هذا أحد ملوكهم من المتأخرين، فعند النصارى اختلاف عظيم في الإنجيل حتى أوصلوها إلى أربعين إنجيلاً، والله تعالى أنزل إنجيلاً واحداً، ثم اختصروها إلى أربعة، وهكذا اجتمعوا مرات عديدة فيختلفون على ستة عشر قولاً، ويتلاعنون حتى جاء قسطنطين هذا وكان له مكانة عندهم وله هيبة وجمعهم.

قال: [فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً، فقالت كل شرذمة فيه شيئاً، فمائة تقول فيه قولاً، وسبعون تقول قولاً آخر، وخمسون تقول فيه شيئاً آخر، ومائة وستون تقول شيئاً، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفاً فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة].

أي: ألفوا له كتاباً وسموه الأمانة، واجتمع عليه النصارى فيما بعد، والحافظ يقول: ينبغي أن يسمى خيانة؛ لأنه مختلق ومخالف للإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، لكن لما رأى الملك أن ثلاثمائة وثمانية اتفقوا على هذا الرأي مال إليهم وقال: ضعوا لي كتاباً فوضعوا كتاباً، يتفق عليه النصارى ويحكمون به وسموه الأمانة وهو خيانة؛ لأنه مخالف لكتاب الله.

قال: [فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة].

هذا يدل على أن له قوة وله مكانة وقدرة.

قال: [وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء].

صاروا يعظمون الصليب، وهذا من جهل النصارى، يزعمون أن عيسى قتل وصلب، فهم بذلك يعظمون الصليب؛ لأن عيسى مصلوب عليه، وهذا من جهلهم، يعني: كان المتبادر إلى العقل أن الصليب لا يعظم؛ لكن لأن هذا هو الذي قتل عليه نبيهم وصلب عليه يعظمونه، وهل تعظم الخشبة التي صلب عليها؟ لكن هذا من جهل النصارى وقلة عقولهم، فصاروا يعبدونه فرحاً منهم بصلبه، وهذا من كذبهم، قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨] ولكن الله ألقى شبهه على أحد الناس فقتل وصلب، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:١٥٧].

فإذا قيل: هل جميع النصارى يعتقدون أن عيسى قتل؟

الجواب

قد لا يقال: كلهم، لكن هذا معروف عند كثير منهم، لكن المؤمنين من آمن به يعلم أن الله رفعه إليه، وكذلك أيضاً يمكن ممن حوله من ألقي عليه الشبه، والمتأخرون يعبدونه لأنهم يعتقدون أنه مصلوب.

ويذكر ابن القيم رحمه الله: أنهم يعتقدون أن عيسى يشنع عليهم، ويزعمون أن إلههم في بطن مريم وأنه حملت به ثم ولد بعد ذلك، ثم عاش مدة ثم قتل وصلب، ثم بعد الصلب بثلاثة أيام صعد إلى السماء، ثم بعد ذلك صار هذا إلههم، وهذا من عقائدهم الفاسدة.

قال المؤلف رح