[تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)]
قال الله تعالى: [{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:٨٥] الآية.
قال المصنف رحمه الله: قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:٨٥] الآية.
قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس].
الأقرب للصواب أن قريظة مع الأوس، وقينقاع وبني النضير مع الخزرج كما سبق.
قال المصنف رحمه الله: [يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماًَ، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذ به بعضهم من بعض].
أي: أن الله حرم عليهم في التوراة أن يقتل بعضهم بعضاً، وأن يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأمرهم بالفداء من وجد فيهم أسيراً، فعملوا ببعض الكتاب، وهو مفاداة الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وكفروا بالبعض الآخر، فلم يعملوا بما فيه من النهي عن القتل والإخراج، فقتل بعضهم بعضاً، ونهب أمواله وأخرجه من داره، ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملاً بالكتاب، فعمل ببعض الكتاب وكفر بالبعض، وفيه دليل على أن من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع ولا يفيد عمله بالبعض، ولهذا قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٨٥].
ومن كفر بكتاب من كتب الله فقد كفر بالجميع، ويجب على كل إنسان أن يؤمن بكتب الله جميعاً، فمن آمن ببعض كتب الله وكفر بالبعض الآخر فهو كافر، كما أن من عمل ببعض الكتاب ولم يعمل بالبعض الآخر فهو كافر أيضاً، وكذلك من آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل متضامنون، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، كما قال الله عن عيسى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦].
ولهذا أخبر الله عن الأمم الكافرة التي كذبت نبيها أنها كافرة بجميع الرسل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٠٥]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٢٣]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٤١]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر:٨٠] فهم كذبوا نبياً واحداً، لكن تكذيبهم لهذا النبي تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين، وليس قبل نوح رسول، فهو أول رسول، ومع ذلك أخبر الله عن قومه أنهم كذبوا المرسلين، فالرسل جاءوا بعد نوح، والمراد جنس المرسلين، فتوعدهم الله بالنار، وبين أن هذا كفر بالجميع نعوذ بالله، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى فيصيبها ما أصابهم، وأن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض.
فالواجب على كل إنسان أن يؤمن بجميع رسل الله وكتبه، وأن يؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وبكتابه القرآن، ولا يجعل القرآن عضين فيؤمن ببعضه ويكفر ببعضه، قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:٩١] أي: أجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالجميع.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم.
يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:٨٥]، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا].
الأوس والخزرج كانوا أهل أوثان، وكان اليهود يظاهرون أهل الأوثان على قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فكانوا يعاونون الأوس والخزرج عليهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة].
لأن المفاداة إنما هي في الأسرى فقط، أما القتلى والإخراج من الديار فهذا ليس فيه مفاداة؛ لأن الله تعالى عاب عليهم كونهم يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ونفي المفاداة في سفك الدم فلا دية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكان النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتلا بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:٨٥] الآية.
وقال أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:٨٥] الآية.
وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير].
عبد خير معروف يروي عن علي.
قال المصنف رحمه الله: [قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت! هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:٨٥] قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم، قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين].
سلمان ثبت، ويقال أن له صحبة، وكأنه فيه خلاف في الصحبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، قال حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرض، فقال عبد الله: أما إنه مكتوب عندكم في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:٨٥]، أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:٨٥]، جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٧٤].