للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها)]

قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٧ - ٧٨].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عنهما أنهما انطلقا بعد المرتين الأولين: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}.

روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة].

الأيلة قرية في الشام، يعني: بعدما نزلا من السفينة أتيا هذه القرية، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض، واستطعما أهلها، فكانوا قوماً لئاماً لم يضيفوها، بل ردوهما، فمر الخضر بجدار يريد أن ينقض -أي: يسقط- فأخذ يعمل ليقيمه، فأنكر عليه موسى فقال: كانوا قوماً لئاماً لم يضيفونا، فمنعوا الواجب وهو الضيافة، فكيف تعمل عندهم بدون أجرة؟ فبين له الخضر وجه الحكمة في هذا، وهو أنه لا يعمل لأجل المال، ولكن تحته كنز لأيتام، والله تعالى أراد أن يبلغا أشدهما ويستخرجا الكنز من تحت الجدار، فلو تركه وسقط لضاع الكنز، ولكنه يريد أن يقيمه حتى يكون الجدار قائماً، فيعرف الكنز تحته، فلو تركه لسقط وانهدم ولضاع الكنز ولم يكن له معلم يعرف به.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما) أي: بخلاء {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}، إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض هو السقوط].

يعني أن إسناد الإرادة إلى الجدار من باب المجاز؛ لأن الجدار ليس له إرادة، فالإرادة إنما تكون للحي، وهذا على القول بأن اللغة فيها مجاز، والصواب الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة مجاز ولا في اللغة، وأن هذا القول بالمجاز والاستعارة محدث لم يعرفه العرب في لغتهم، ولا هو معروف في عهد الصحابة، بل ولا في عهد الأئمة الأربعة، وإنما هو محدث، والإرادة في اللغة العربية واسعة، فللإنسان إراد تليق به، والجدار له إرادة تليق به.

فاللغة العربية واسعة، حيث تطلق اللفظ على هذا وعلى هذا، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، والأسد يطلق على الحيوان، ويطلق على الرجل الشجاع، وإذا قلت: (رأيت أسداً) ينصرف المعنى إلى الحيوان المفترس، وإذا أردت غير الحيوان فلابد من أن تأتي بالقرينة، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، أي: الرجل الشجاع، فاللغة العربية أساليبها واسعة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢] أي: واسأل أهل القرية.

وأول من قال بالمجاز أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة، يريدون به نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات صفة الله مجاز، فالاستواء على العرش مجاز، وعلمه مجاز، وقدرته وإرادته مجاز، والمجاز يصح نفيه، فيقال: ليس في القرآن كلام الله وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كله حقيقة ليس فيه مجاز، فالمصحف فيه كلام الله، ولهذا يقول الأشاعرة: المصحف ليس فيه كلام الله، وقالوا: هذا القرآن مجاز عن كلام الله؛ لأن كلام الله تعدى بهذا القرآن، أو يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف ليس فيه كلام الله وإذا قالوا: المصحف كلام الله، قالوا: المراد به المجاز؛ لأنه تعدى به كلام الله، وإلا فليس فيه كلام الله، وهذا من أبطل الباطل.

فالمقصود أن المجاز يصح نفيه، والحقائق لا يصح نفيها.

والصواب أن الجدار له إرادة تليق به، فقد جعل الله له إرادة، وسماها الله إرادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، أي: كل موجود من الكائنات إلا العدم -فالعدم لا يسمى شيئاً- يسبح، فكيف يسبح؟ الله أعلم، وكيف يريد؟ الله أعلم.

ومن هذا الباب حنين الجذع وتسبيح الحصى والطعام، وقوله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (جبل يحبنا ونحبه)، فجعل الله فيه صفات، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:٧٤] أي: الحجارة، فيهبط الجبل من خشيته وهو جبل أصم، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب أُحداً لما تحرك وهو عليه والصديق وعمر وعثمان أيضاً فقال: (أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَأَقَامَهُ} أي: ورده إلى حالة الاستقامة.

وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق].

يعني: خارق من خوارق العادات، وهو أنه لم يتعب في إصلاحه، فرده بيده ودعمه فاستقام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند ذلك قال موسى له: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، أي: لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجاناً.

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي: لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أي: بتفسير {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}].

والتأويل يطلق على التفسير، ويطلق على الحقيقة التي يئول إليها الكلام، والمراد هنا التفسير، مثل قول ابن جرير: (القول في تأويل قول الله تعالى) يعني التفسير، ويطلق التأويل على العاقبة، مثل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧]، أي العاقبة التي يئول إليها الكلام، مثل تأويل حقائق الآخرة.