تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً.
حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً)
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:٩٢ - ٩٣].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان متناوحان] يعني: جبلان متقابلان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل].
ويأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم على الصحيح، وسميتا بيأجوج ومأجوج لكثرة لغطهم وأصواتهم.
وما ذكره بعضهم من أن آدم احتلم في الأرض، وأن الله خلقهما باحتلامه؛ فهو باطل لا أصل له، والصواب أنهما أمتان من بني آدم كافرتان تعيثان في الأرض فساداً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم! أخرج بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟! فقال: أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً) وفي الحديث الآخر: (أنهما أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه) فهما أمتان كافرتان.
وثبت في الحديث الصحيح أن ذا القرنين -كما في الآية- بنى السد، وأنهم يخرجون في آخر الزمان ويفسدون في الأرض، فيخرجون في زمن عيسى عليه السلام حين ينزل من السماء، وهو العلامة الثالثة من العلامات الكبرى للساعة، فأولها المهدي، يخرج في آخر الزمان في وقت ليس للناس فيه إمام، ويبايع بين الركن وباب الكعبة، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فهو محمد بن عبد الله المهدي، والفتن تحصر أهل السنة وأهل الحق في الشام، وتحصل حروب في زمانه بين النصارى والمسلمين، وتفتح القسطنطينية، ويعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون بعد فتح القسطنطينية وانتصار المسلمين، فبينما هم كذلك إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج.
فخروجه يعتبر العلامة الثانية من أشراط الساعة الكبرى، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء في وقت الدجال وفي زمن المهدي، فنزول عيسى هو العلامة الثالثة من أشراط الساعة، فيقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة.
ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج في زمان عيسى، فهذه أربع علامات متتالية في وقت واحد: المهدي، ثم الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين بجبل الطور، فيوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور، فإني سأخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، فقوله: (عباداً لي) يعني العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عبودية عامة تشمل كل الناس كافرهم ومؤمنهم، بمعنى أنه تنفذ فيهم قدرة الله ومشيئته وإرادته، فلا يخرجون عنها، مثل قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣].
النوع الثاني: العبودية الخاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين، أي: من يعبد الله باختياره، ولهذا يوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور؛ فإني مخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، يعني: لا قدرة ولا طاقة لأحد بهم، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه إلى جبل الطور، فيخرج يأجوج ومأجوج ويفسدون في الأرض، فيدعو نبي الله عيسى ومن معه عليهم فيهلكهم الله كموت نفس واحدة، حتى يكونوا كالجبال وكالتلال بعضهم فوق بعض، فيرسل الله طيراً كالبخت -أي: الإبل- تأخذهم فتلقيهم في البحر، فينزل الله مطراً فيطهر الأرض به، وهذا من رحمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأوخمت الأرض وهلك الناس.
فهذه أربع علامات من أشراط الساعة الكبرى كلها متتالية، والمقصود أن يأجوج ومأجوج أمتان كافرتان مفسدتان في الأرض، ولهذا لما وصل إليهم ذو القرنين رحمه الله وشكى إليه الترك فساد يأجوج ومأجوج فقالوا: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فاجعل بيننا وبينهم سداً، وسنعطيك مالاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً، فقال ذو القرنين: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني: أنا عندي من المال ما يكفيني، لكن أعينوني بقوة ورجال، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} فأعانوه فبنى السد بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: (إن الله تعالى يقول: يا آدم.
فيقول: لبيك وسعديك.
فيقول: ابعث بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج)].
هذا الحديث فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وأن الله يتكلم بصوت وحرف، خلافاً للجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين أنكروا الصوت، فهو يناديهم، وفي الحديث الآخر: (أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب).
والمعتزلة والأشاعرة والجهمية أنكروا الكلام، فقال الأشاعرة: إن الكلام معنى قائم بالنفس لا يسمع، ليس بحرف ولا صوت، وهذا الحديث فيه الرد عليهم، فهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت، لكن الله لا يشبه المخلوقين في شيء من صفاتهم، فصوت الله لا يشبه صوت المخلوق، ولهذا فإن كلام الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، بخلاف صوت المخلوق، فلا يسمعه إلا القريب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك].
هذا ذكره النووي في شرح صحيح مسلم، وهو ضعيف وليس بصحيح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء، وهذا قول غريب جداً، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم].
الصواب أنهم خلقوا من آدم وحواء وهما أمتان من آدم وحواء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك) فقال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: إنما سموا هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة].
يعني: صاروا خارج السد، فسموا الترك، وبقي داخل السد يأجوج ومأجوج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم].
ومن ذلك: أن الواحد منهم يفترش إحدى الأذنين ويلتحف بالأخرى، ووهب بن منبه يأخذ عن بني إسرائيل كما ذكر الحافظ ابن كثير، والأقرب أن ذلك من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي: لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس].