[تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم)]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:٩] أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:١٨]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:٩].
يقول: وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢]، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد].
يعني أن غرورهم بقي معهم حتى في موقف القيامة -نسأل الله السلامة والعافية-، وظنوا أن كونهم مع المؤمنين في الدنيا ينفعهم، بحيث يكونون مع المؤمنين يوم القيامة، وقد ثبت في الحديث الصحيح في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (لتتبع كل أمة ما تعبد) فمن كان يعبد الشمس يتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، وهكذا يتساقطون في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيقول الله تعالى: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه.
إذ قد جعل الله لهم علامة سبحانه وتعالى.
وثبت أنه في القيامة يرونه أربع مرات، وأنه يتجلى لهم في الصورة الأولى، ثم يتجلى لهم في صورة غير الصورة التي يعرفون فينكرونها ويقولون: نعوذ بالله، هذا مكاننا، فإذا جاء ربنا عرفناه.
فيرونه في المرة الأولى، ثم يرونه المرة الثانية فيتجلى لهم في غير الصورة التي يعرفونه فينكرونه، ثم يرونه في المرة الثالثة فيسجدون له، فيذهب المنافقون يريدون أن يسجدوا فيجعل الله ظهر كل منافق طبقاً فلا يستطيع أن يسجد، قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:٤٢].
وقد أطال الشيخ ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا في كتابه العظيم (بيان تلبيس الجهمية)، وهو كتاب عظيم فيه مباحث عظيمة لا توجد في غيره من الكتب.
والمقصود أن المؤمنين يرون ربهم في موقف يوم القيامة أربع مرات، والمنافقون يكونون مع المؤمنين؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا، فيكونون معهم في موقف القيامة، ثم بعد ذلك ينطلقون ومعهم النور، فينطفئ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن، وذلك من فعله، وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع؛ لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به].
أي أن هذا خداع منه لنفسه، فكأنه يعطيها السرور بهذا الخداع، ويطمع أن يكون له يد مع المؤمنين ومع الكفار، وهو في الواقع يجرها إلى الهلاك، فهذا خداع منه لنفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:٩] إعلاماً منه لعباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين.
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي: حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة:٩] قال: يظهرون (لا إله إلا الله) يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك].
وقال سعيد عن قتادة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ): نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق، يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها].
الخانع: المريب الفاجر، وقد خنع كـ (منع)، والخنعة: الفجرة، والريبة، والمكان الخالي.
وقد يكون الخانع بمعنى: (الوضيع)، من التطامن، وفي الحديث: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) يعني: أوضع وأحقر، لكن هنا قد يأتي بمعنى آخر يفهم من السياق، أي: المريب الفاجر.
وأخنعته الحاجة: أخضعته وأضرعته، والتخنيع: القطع بالفأس، وأخنع الأسماء عند الله: أوضعها وأحقرها.