بيان معنى قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهذا هو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كذب عدو الله].
وهذا من باب الشدة في الإنكار، ومعنى (كذب): أخطأ.
فمن أخطأ يقال له: كذب، وإن لم يتعمد الكذب، فهذا من باب الشدة في الإنكار، ومن الكلمات التي لا يراد بها معناها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ صفية: (عقرى حلقى).
وهذا لا يراد به حقيقته.
فقول ابن عباس: (كذب عدو الله)، يعني: أخطأ في هذا، بل هو موسى بني إسرائيل.
ومنه ما جاء في الحديث في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن بطن أخي استطلق.
فقال: أسقه عسلاً.
فجاءه فقال له: زاد استطلاقه.
فقال: اسقه عسلاً.
فأتاه في المرة الثالثة، فقال: اسقه عسلاً، ثم قال: (صدق الله وكذب بطن أخيك).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: (قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال موسى: يا رب! وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا))].
أي: سارا يوماً وليلة، ونسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه، ثم لما طلب موسى منه الغداء بعد أن أحس بالجوع والتعب أخبره بأنه نسي الحوت، وأنه ليس معهما شيء، فقال: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، وفيه تسلط الشيطان على الإنسان حتى في الأمور الواضحة؛ لأن أمراً مثل هذا لا ينسى؛ إذ إن مهمة يوشع هي أن يحمل المكتل، وليس معه شيء آخر يشغله، ومع ذلك نسي هذه المهمة التي هي حمل الغداء.
قال: [(ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)، قال: فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً)].
أي أن الله تعالى جعل لموسى علامة على العثور على الخضر، وذلك عند فقدانه للحوت، فأخبره فتاه أنه فقد الحوت، فقال: هذا هو الذي نريد، فقد حصلت العلامة، فرجعا إلى مكانهما فوجدا الخضر.
قال: [(فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا)، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى.
فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: ما جاء بك؟ قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً)].
وهذا فيه فوائد، منها أن السلام مشروع في الأمم السابقة، فلهذا سلم موسى، والسلام تحية المؤمنين في الدنيا وتحية المؤمنين في الجنة، فلما جاء موسى وفتاه وجدا هذا الرجل مسجى، أي: مغطى بثوب، فسلم موسى، فرفع الخضر رأسه لما سمع السلام، فقال: (وأنى بأرضك السلام؟!) أي: من أين أنت؟ وكأن -والله أعلم- أن هذه الأرض أرض سوء ليس فيها سلام، فالسلام محل استغراب، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
وهذا فيه دليل واضح على أن موسى التي حصلت له القصة هو موسى بني إسرائيل، ويدل -أيضاً- على أن موسى مرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وليست رسالته عامة كرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الخضر كان في أرض بعيدة، ولم يكن موسى مرسلاً إليه، ولا هو مكلف بشريعة موسى، ولهذا لما قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: ما جاء بك، قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً، وفي بعض الآثار أنه قال: (أما تكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟!).