[تفسير قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله)]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: [قال الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:٢٧ - ٣٣].
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها، ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً وقالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، أي: أمراً عظيماً، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي، قال: وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف، فلم يحسوا منها شيئاً، فرءوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال: لا، ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها سجداً نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً، فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:٢٧] أمراً عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:٢٨] أي: يا شبيهة هارون في العبادة {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:٢٨] أي: أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أي: أخي موسى، وكانت من نسله، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر.
وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في العبادة والزهادة.
وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له: هارون، ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا المفضل بن فضالة قال: حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:٢٨]، قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:١١]].
هذا بعيد؛ لأن بين مريم وبين موسى وهارون ما يقرب من ألف عام، وإنما قالوا: (يا أخت هارون) لأنهم يسمون بأسماء الأنبياء، أو أنه رجل صالح في زمانهم.
وأما القول بأنه رجل فاجر فبعيد أيضاً؛ لأنهم قالوا لها: (يا أخت هارون) أنت معروفة بالعبادة، (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) فهم يقولون: كيف يحصل هذا منك وأنت شبيهة بهارون أو أخت هارون، وكانوا يسمون بأسماء أنبيائهم.
وكذلك القول بأنها أخت هارون النبي بعيد، فبينها وبينه دهور من الزمان؛ لأن موسى أول أنبياء بني إسرائيل، وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، فكيف تكون أختاً لهارون؟! لا يمكن.
قال: [وهذا القول خطأ محض؛ فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء].
هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين نبينا نبي، وليس بعده نبي إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى أول أنبياء بني إسرائيل، وبين موسى وعيسى أنبياء كثيرون وأمم لا يحصيهم إلا الله، داوود وسليمان ويحيى وزكريا كثير من الأنبياء، كلهم جاءوا بعد موسى، وكلفوا بالعمل بالتوراة، فكان آخرهم عيسى.
قال: [فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً، وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أولى الناس بابن مريم، إلا أنه ليس بيني وبينه نبي)].
ما جاء في الصحيحين: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، بدون ذكر الاستثناء.
وهذا الحديث: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، يدل على ضعف الحديث الذي فيه أن هناك نبياً في هذه الفترة اسمه خالد بن سنان، فليس هناك نبي بعد عيسى إلا نبينا محمد.
قال: [(أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكان قبل سليمان وداود].
معنى هذا إذا كانت مريم أختاً لهارون تكون قبل سليمان وداود، وهذا بعيد.
يقولون: قول القرظي بأن مريم أخت لهارون النبي أخي موسى، على هذا يكون عيسى وموسى ليس بينهما نبي، والله تعالى يقول: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:٨٧] أخبر الله تعالى أنه قفى بعد موسى برسل كثيرين، ثم جاء عيسى، فهذا يدل على بطلان هذا القول؛ لأن الله أخبر أنه قفى بعد موسى بالرسل، ثم بعد ذلك أرسل الله عيسى.
قال: [ولكان قبل سليمان وداود، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٦]، فذكر القصة إلى أن قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:٢٥١] الآية.
والذي جرأ القرظي على هذه المقالة: ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها، يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى، وهي هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه].
يعني: إن صح ما في التوراة، ولم يكن محرفاً؛ تكن مريم بنت عمران أخت موسى اسمها كذلك، وليست هي أم عيسى، أي أن موسى بن عمران له أخت اسمها مريم غير مريم أم عيسى، هذا لو صح ما في التوراة مع أنه لا يعتمد على ما في التوراة، والتوراة التي في أيديهم حرفت على أيدي بني إسرائيل.
قال: [وهذه هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:٢٨] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم)، انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس].
هذا قوله: (يا أخت هارون) , هارون سمي باسم هارون النبي، وهي سميت باسم مريم، فعلى هذا ليس المراد هارون النبي لأن بينهما دهوراً، وإنما هارون آخر سمي باسم هارون النبي.
قال: [وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن كعباً قال: إن قوله: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ)) ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة، قال: فسكتت، وفي هذا التاريخ نظر].
ثم أيضاً هو منقطع، قال محمد بن سيرين: نبئت.
من الذي نبأه؟ فيه انقطاع، والأقرب أنه أكثر من ستمائة سنة بين موسى وعيسى، بل لعله يقارب ألف سنة.
قال: [وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {