[ذكر من ذهب إلى تفسير الآية بالكافرين بعد الإسلام]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه: قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة:١٧] زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذىً أو أذىً فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر.
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدىً ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك].
رواية العوفي عن ابن عباس منقطعة، وكذلك رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى.
وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً، ثم يدركه عمى القلب.
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا، (فذهب الله بنورهم) أي: فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، (فتركهم في ظلمات لا يبصرون).
وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه].
معنى ذلك أن المنافق إذا أخفى نفاقه فإنها تجرى عليه أحكام الإسلام، فيزوج، ويرث من أقاربه، ويورث، ويصلى عليه، وتتبع جنازته، وتجرى عليه سائر أحكام الإسلام، لكنه في الآخرة في أسفل النار.
وأما إذا أظهر نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة المرتد، ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ودُلِّي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، فلما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فقال: (أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها).
وهذا قبل أن ينهى، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:٨٤]، ففعل عليه الصلاة والسلام هذا قبل أن ينهى عن الصلاة عليهم، لأنه كان يرجو أن ينفعه ذلك، وفعل ذلك أيضاً مراعاة للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله، فإنه كان يتألفهم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم نهي بعد ذلك عن الصلاة على المنافقين، فمن علم نفاقه فلا يُصلى عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:١٧]؛ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة].
المنافقون طبقات: فمنهم من استحكم الكفر والنفاق في قلبه، فليس عنده شيء من الإيمان، ومنهم من عنده شيء يسير يضيئ أحياناً ويخبو أحياناً، فإذا كثرت الشكوك والريب انطفأ هذا النور، وإذا خفت شكوكه ظهر شيء منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)): أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) هي لا إله إلا الله أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ))].
أي أنهم لما قالوا: (لا إله إلا الله) دخلوا في الإسلام، فأكلوا بها وشربوا، أي: بقوا أحياء، وسلمت دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو لم يقولوها لقتلوا، وبها تزوجوا النساء، ولكنهم كانوا يناقضون هذه الكلمة بالشك والريب والكفر، فلا تنفعهم في الآخرة، فكانوا في الدرك الأسفل من النار، عياذاً بالله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين وغازاهم بها، ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)].
أي: غزى وجاهد معهم في سبيل الله، فالمنافقون كانوا يغزون ويجاهدون مع المؤمنين، وقد انخذل عبد الله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش، وكانوا -أيضاً- يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسلام يُجري الأحكام على الظواهر، وأما البواطن فمردها إلى الله.