للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة)]

قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٨٢].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في هذه الآيةِ دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولاً: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}، وقال هاهنا: {فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:١٣]].

وهي مكة، فمكة تسمى قرية وهي مدينة، فالمدينة تسمى قرية، والقرية تسمى مدينة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١] يعني: مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:٨٢].

قال عكرمة وقتادة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما.

وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.

وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد: صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك.

قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني عن أبي حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: (إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟) لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وبشر بن المنذر هذا يقال له: قاضي المصيصة، قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: في حديثه وهم].

الأقرب أن الكنز المال، والحديث هذا لا يثبت؛ لأن فيه ضعفاً، فالأقرب أن الكنز المال، ويحتمل أنه كنز العلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في هذا آثار عن السلف، وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة، حدثنا سلمة عن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن - قال: سمعت الحسن -يعني البصري -يقول في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله].

هذا مقطوع على الحسن البصري، والحسن البصري تابعي، والأقرب أنه من أخبار بني إسرائيل؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهة المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به، فلوح مختوم فيه هذا الكلام يحتاج إلى دليل، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم، وهذا لا يصدق ولا يكذب، لكن الله تعالى أخبرنا أن تحته كنز لهما، أما هذا اللوح المكتوب فيه هذه الكلمات فالله أعلم.

ومن الرواة الذين رووا ذلك الحسن بن حبيب بن نَدَبة -بفتح النون والدال والموحدة- التميمي أبو سعيد البصري الكوسجي، روى عن هشام بن عروة وأبي حمزة، وعنه الخلال وابن المثنى وعلي بن حسين الدرهمي، وثقه النسائي، قال مطين: توفي سنة سبع وعشرين ومائة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن جرير: [حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش، عن عمر مولى غُفْرَة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} قال: كان لوحًا من ذهب مصمت مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن عرف النار ثم ضحك! عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجبت لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله].

قوله: [عجبت لمن أيقن بالنار كيف نصب؟] يعني: تعب، أي: كيف يتعب وهو يعلم أن الله قدر كل شيء، وهذه كلمات وعظ، وفيها الشهادة بالوحدانية، لكن هذا الكلام موقوف على السابقة، عمر مولى غفرة، وكل هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت: سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب؟].

يعني: من أيقن أن الله تعالى يرزق، وأن الله تعالى تكفل بالرزق، كيف يتعب وينصب والله تعالى تكفل بالرزق؟ فالموقن لا يتعب.

قال: [وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفُل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجاً.

وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم -وإن صح- لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالاً؛ لأنهم ذكروا أنه كان لوحاًَ من ذهب وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعاً فيه علم، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم].

كأن كلام الحافظ: (والحديث إن صح) بدون واو، أي: سياق الكلام يقتضي هذا، فكأن الحافظ شك في صحته، ولا يصح الحديث، لكن لو صح الحديث مع هذه الآثار، فإنه لا ينافي أن يكون كنزاً، أو لوح كنز مكتوباً فيه هذه الحكم، فإن لم يصح فالله أعلم بهذه الكلمات، إلا أنه كنز، والله أعلم بكيفية الكنز، فهل هو لوح أو غير لوح؟ لكن الحديث إن صح مع هذه الآثار يحمل على أنه لوح من ذهب مكتوب فيه هذه الحكم، لكن الحديث لا يصح بهذا السند، وكأن الحافظ رأى أن تلك الآثار متابعة له، لكنها آثار مقطوعة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به].

وذلك كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:٢١].

قال المؤلف رحمه الله: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح].

قال تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فحفظ المال بصلاح أبيهما، وأما هما فلم يكن لهما صلاح، أو كانا يتيمين لم يبلغا بعد، فحفظا وحفظ مالهما بصلاح أبيهما، قال تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، والرجل الصالح تحفظ ذريته بسببه، ويشفع لهم في الآخرة ويرفعون إلى درجته، وإن كانت منزلتهم أقل، لكي تقر عينه بهم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:٢١]، فذريته تلحقه وترفع إلى درجة أعلى، من غير أن ينقص من ثوابه شيء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) يعني: ما نقصناهم من ثوابهم من شيء.

وهذا من الثواب المعجل للمؤمن، فالمؤمن يثاب عاجلاً وآجلاً، فمن الثواب المعجل أن الله تعالى يحفظ ذريته به، ومن الثواب المعجل الثناء الحسن، والرؤيا الصادقة، كما قال الله تعال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:٦٢ - ٦٤]، فالبشرى في الدنيا فسرت بالثناء الحسن وبالرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع، فالله أعلم].

وظاهره أنه أبوهما المباشر، وكونه الأب السابع يحتاج إلى دليل.