[الحروف المقطعة واشتمالها على أنصاف أجناس الحروف]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي: (أ، ل، م، ص، ر، ك، هـ، ي، ع، ط، س، ح، ق، ن) يجمعها قولك: (نص حكيم قاطع له سر)، وهي نصف الحروف عدداً، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف.
قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة، وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته].
وهذه المعاني معروفة عند أهل التجويد الذين يقسمون الحروف إلى: مطبقة ومفتوحة، ومستعلية ومستفلة، ومجهورة ومهموسة، ومقلقلة، وحروف القلقلة مجموعة في قولك: (قطب جد)، فتقول: (حميد مجيد) بقلقلة الدال عندما تقف عليها، ولا تقل: (حميد مجيد) بغير قلقلة، بل لابد من قلقلتها، وكذلك قوله تعالى: (لأولي الألباب) أما ما سواها من الأحرف فلا تقلقل، وأما الحروف الخمسة فتقلقل استحباباً.
وفي نسخة مكان أصناف (أنصاف) ومعناها: أن نصف حروف الهجاء أربعة عشر حرفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى عن الزمخشري: [وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، ومن ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأً كبيراً].
جاء في نسخة (لحظ) بدل (لخص) ولعلها أقرب، يعني: لحظ هذا الملحظ.
قال: [فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧]].
والصواب أن لها معنى، لكن الله أعلم به، فإن صح به الخبر قلنا به، وإن لم يصح فلا، ولهذا لم يأت نص في تفسير هذه الحروف، فنقول: الله أعلم بمعناها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين، هذا مقام.
المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف].
أي: أن المقام الأول في بيان معناها، والصواب أن معناها لا يعلم، بل يوكل إلى الله عز وجل.
والمقام الثاني: في بيان حكمة إيرادها في أوائل السور، والحكمة من إيرادها في أوائل السور -كما ينقل المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي: بيان إعجاز القرآن، وأن القرآن معجز، مع أن القرآن نزل بلغة العرب بالحروف الهجائية الثمانية والعشرين، ومع ذلك عجزوا عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، ولهذا يأتي بعد الحروف المقطعة الانتصار للقرآن في كل سورة والتنويه به وبيان إعجازه، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:١]، والمعتزلة يقولون: الإنزال لا ينافي الخلق، فبعض الأشياء مخلوقة وهي منزلة، مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:٢٥] فالحديد منزل وهو مخلوق، ومثله نزول المطر، لكن العلماء بينوا الفرق بين الإنزالين، فقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:٢٥] الإنزال فيه مطلق، وأما إنزال المطر فهو إنزال مقيد بأنه من السماء، وأما القرآن فهو منزل من عند الله، كما في قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:١٣]، وقوله تعالى: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:١١٤]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:١].
فالحاصل أن المعتزلة يقولون: إن جاء في القرآن أنه منزل فلا ينفي ذلك أنه مخلوق، فهو مخلوق ومنزل، كما أن الحديد مخلوق ومنزل، والمطر مخلوق ومنزل, والأنعام مخلوقة ومنزلة، فهذه شبهة للمعتزلة، لكن أجاب عنها أهل السنة ببيان الفرق بين إنزال القرآن وإنزال هذه الأشياء.