للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام القاضي عياض في قصة الغرانيق]

وقد أورد المحقق كلام القاضي عياض مختصراً.

قال رحمه الله: فاعلم أكمرك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.

والثاني: على تسليمه.

أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أصل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.

وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله ما هكذا أنزلت).

إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.

ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.

والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال -فيما أحسب الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة) وذكر القصة.

قال أبو بكر البزار: هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرفه من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه -كما ذكرناه- الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه.

أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله.

والذي منه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ} [النجم:١]، وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).

هذا توهينه من طريق النقل.

أما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل الله عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.

أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من هذا كله.

ووجه ثان: هو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليهم ذلك.

وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!! ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة.

ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:٧٣]، الآيتين.

وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.

فمضمون هذا ومفهومه: أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً؟! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: (افتريت على الله، وقلت ما لم يقل)، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء:١١٣].

وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح.

وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.

ثم ذكر الأجوبة على ذلك، وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال: هذا من وضع الزنادقة، وهذا هو الصواب.

للاستزادة: انظر: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) لـ محمد أبي شهبة، (ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق) لـ محمد ناصر الدين الألباني، والله أعلم.

وعلى كل حال فالقصة هذه معروف أن طرقها كلها مرسلة.