[عظم القول بنسبة الولد إلى الله تعالى]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً، فقال: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ)) أي: في قولكم هذا، ((شَيْئًا إِدًّا)) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك: أي عظيماً، ويقال (إداً): بكسر الهمزة وفتحها ومع مدها أيضاً، ثلاث لغات أشهرها الأولى].
يعني: (إداً) و (أداً) و (أدا) بالألف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) أي: يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً؛ لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا صاحبة له ولا كفء له بل هو الأحد الصمد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال ابن جرير: حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة قالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال: تلك أوجب وأوجب، ثم قال: والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن) هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم].
هذه الآيات الكريمات فيها أن الشرك من أعظم الذنوب وأعظم الكبائر، وفيها أن نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر، والشرك ومن أعظم المحرمات التي عظمها الله سبحانه وتعالى، وجعلت صاحبها مشركاً تجب له النار إذا مات على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
وذلك أن نسبة الولد إلى الله تنقص للرب عز وجل؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد إنما هو المخلوق الناقص الضعيف، فالولد كمال في حق المخلوق؛ فالذي يولد له ولد أكرم من الذي لا يولد له، والعقيم الذي لا يولد له عنده نقص بخلاف الذي يولد له؛ لأن المخلوق ضعيف يحتاج إلى الولد ليعينه ويساعده ولاسيما في وقت الكبر، أما الرب سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه المقيم لغيره الحي القيوم سبحانه وتعالى، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ولد ولا صاحبة، فمن نسب الولد إلى الله فقد افترى على الله أعظم فرية، بل أشرك بالله وارتكب إثماً عظيماً وحوباً كبيراً، ولهذا قال سبحانه: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا))، أي: لقد جئتم بهذه المقالة شيئاً عظيماً، ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا))، يعني: السماوات والأرض أسستا على التوحيد، وكل المخلوقات أسست على التوحيد، وكلها تسبح بحمد الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤] إلا الثقلين الجن والإنس، ولهذا تكاد السماوات إذا سمعت هذا الشرك أن تتفطر وتكاد الأرض أن تنشق وتكاد الجبال أن تخر، ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) يعني: بسبب ادعائهم الولد لله.
قال الله: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) أي: ما ينبغي ولا يليق به سبحانه أن يتخذ الولد؛ لأنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فهو واحد فرد صمد قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره، وهو صمد في نفسه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد وتصمد إليه الخلائق في حوائجها ليس بحاجة إلى أحد، بخلاف المخلوق الضعيف فإنه يحتاج إلى الولد يحتاج إلى من يعينه ويساعده.
والتوحيد شأنه عظيم، من مات على التوحيد وقال: لا إله إلا الله عند موته وجبت له الجنة، يعني: من قالها عن إخلاص وصدق ولم يعمل ناقضاً من نواقضها وجبت له الجنة، وكذلك إذا قالها في صحته ومات على ذلك ولم يغير ولم يبدل وجبت له والجنة، الجنة أعدها الله للموحدين والنار أعدها الله للكفار، أما العاصي الموحد فهو من أهل الجنة، لكن هذه المعاصي وهذه الكبائر التي مات عليها من غير توبة لا بد من أن يطهر منها إما بعفو الله ومغفرته، فإن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه فلا بد أن يطهر في النار، حتى تزول هذه المعاصي وتغسل بالنار إذا لم تغسل بعفو الله، حتى يخرج نقياً سليماً بريئاً من الخبث الذي ينقص توحيده ويضعف توحيده.
إذاً: أهل التوحيد من أهل الجنة، وإذا قال المرء كلمة التوحيد عند الموت فله هذا الوعد، وإذا قالها في حياته ومات على ذلك وحصل له غيبوبة أو زال عقله وهو على التوحيد فهو على ما كان عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)) أي: يتشققن فرقاً من عظمة الله].
فرقاً يعني: خوفاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وتنشق الأرض) أي: غضباً لله عز وجل، (وتخر الجبال هداً) قال ابن عباس: هدماً، وقال سعيد بن جبير: هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن عون بن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل؟ فيقول: نعم، ويستبشر، قال عون: لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره، ثم قرأ: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)).
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا هودة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى، قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: (اتخذ الرحمن ولداً) فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر].
يعني: نبت له الشوك وصار له شوك، وهذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه مبهماً والمبهم رواه ببلاغ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: غضبت الملائكة واستعرت النار حين قالوا].
كعب الأحبار يحكي عن بني إسرائيل، وهو أسلم زمن عمر رضي الله عنه.