[تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)]
قال الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:١٣٣].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لَوْلا} [طه:١٣٤] أي: هلا يأتينا محمد بآية من ربه، أي: بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:١٣٣] يعني: القرآن الذي أنزله عليه الله، وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها].
ومهيمن أي: هو الحاكم على الكتب السابقة، يصدق الحق وينفي الباطل، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:٤٨]، (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) المراد بالكتاب الجنس، أي: جنس الكتب السابقة: التوراة والإنجيل، فهو يصدق ما فيها، وينفي الباطل منها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:٥٠ - ٥١]، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)].
يعني: أن الأنبياء السابقين أعطاهم الله من المعجزات ما يؤمن على مثله البشر، وهي معجزات حسية، فموسى أعطاه الله العصا واليد، وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص؛ لأن قومه برعوا في الطب وبلغوا شأناً عظيماً، فأعطى لهم من الآيات ما بهر به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه الذي لم يشق له عين، فيشق له عيناً فيبصر، والأطباء لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذا آية من آيات الله، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيحييه الله، فيكون طيراً بإذن الله، فبهر الأطباء.
ولما كان الناس في زمان موسى عليه السلام قد برعوا في السحر ووصلوا إلى شأو بعيد منه، وكثر السحرة في زمن فرعون وملئوا وادياً بالحيات والعقارب حين ألقوا العصي والحبال، فجعل الله عصا موسى تنيناً يأكل حبالهم وعصيهم، فبهرت هذه المعجزة عقول السحرة، وعلموا أن هذا من عند الله، فخروا لله سجداً وآمنوا، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢]، ولما توعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَاأَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٢ - ٧٣]، ولهذا قال بعض العلماء: كانوا في أول النهار سحرة فجرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
وهذا على القول بأنه صلبهم وقتلهم.
فأعطاهم الله من المعجزات الحسية، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله القرآن، وهو وحي يتلا إلى يوم القيامة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)، فلما بلغ الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة، وكانت لهم الأسواق ينشدون فيها الأشعار ويفتخرون فيها، أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وتحداهم وهم فرسان البلاغة وأمراء البيان، فتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بآية فعجزوا، وهو متكون من ثمانية وعشرين حرفاً، وهي الحروف التي ينطقون بها، ومع ذلك عجزوا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر كما هو مودع في كتبه، ومقرر في مواضعه].
فمعجزات الرسول كثيرة، لكن القرآن هو المعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة، وإلا فقد أعطاه معجزات كثيرة منها: تكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكلم الحجر، وحنين الجذع إلى غير ذلك من المعجزات الكثيرة، لكن هذا القرآن هو أعظمها، وهو الباقي وهو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة.