[تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)]
قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].
وقد قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه) انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله].
ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوم القيامة يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن بيده فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، فهذه خمسة أصابع.
وفيه إثبات الأصابع لله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: (يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة)].
الخردلة: الحبة الصغيرة.
وفي الحديث الآخر: (ما السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ومعلوم أن الخردلة: الحبة الصغيرة لا تساوي شيء بالنسبة للإنسان، وهو مستول عليها إن شاء قبضها وإن شاء وضعها فهي لا تساوي شيء، فـ (السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم)، فسبحان الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤]، قيل: المراد بالسجل: الكتاب.
وقيل: المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا يحيى بن يمان قال: حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] قال السجل: ملك فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نوراً، وهكذا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية: السجل: ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل المراد به: اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] قال: السجل: هو الرجل.
قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما: عن قتيبة بن سعيد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي كما تقدم.
ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك تطوي السماء ثم قال: وهو غير محفوظ].
كما يطوي السجل الكتاب، أي: كما يطوي الملك أو هذا الرجل الكاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، الكتاب تطوى السماء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البرقاني أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي: أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا.
وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه- وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله.
وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدته ولله الحمد].
والحافظ قد أفرد رسالة خاصة في هذا، تبحث هذه الرسالة في تضعيف حديث أبي داود: إن السجل كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح بعضهم بأنه موضوع.
قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يعرف أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب اسمه السجل قط، ذكره في كتاب الجامع.
والحديث الذي في سنن أبي داود في إسناده يزيد بن كعب قال الحافظ متروك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكره في أسماء الصحابة فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم.
والصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السجل هي الصحيفة قاله علي بن أبي طلحة والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد.
واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) أي: على الكتاب بمعنى المكتوب، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:١٠٣]، أي: على الجبين، ولهن نظائر في اللغة والله أعلم].
قوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] يعني: كطي الكتاب على المكتوب، فاللام بمعنى: (على) كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:١٠٣] أي: على الجبين فيكون معنى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:١٠٤] كطي الصحيفة بالكتاب على المكتوب، وهذا هو المعروف في اللغة.
قال ابن حجر رحمه الله: وأولى الأقوال بذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجل ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] يعني: هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم وذلك واجب الوقوع؛ لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤].
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وابن جعفر المعنى قالا: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علنيا إن كنا فاعلين)، وذكر تمام الحديث.
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة.
ذكره البخاري عند هذه ال