[تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)]
قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٨١ - ٨٢].
قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، أي: آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:١٢٣ - ١٢٤].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً))، أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه.
وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر.
وقال ابن جريج عن مجاهد: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: بقلبه.
وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: أحاط به شركه.
وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب.
وعن السدي وأبي رزين نحوه.
وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى.
والله أعلم].
المراد بالسيئة في الآية: سيئة الشرك، وهي قوله تعالى: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) فمن أحاطت به خطيئته فلم يبق له حسنة التوحيد بسيئة الشرك، خلد في النار، وإلا فالسيئة التي دون الشرك تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها)].
محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، وتكون في نفسه من الصغائر، فالصغائر تجتمع مع بعضها البعض حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أن قوماً كانوا في البرية وأرادوا أن يطبخوا طعاماً، وليس عندهم حطب، فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء من ذلك، فأججوا ناراً وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات فإنها تجتمع على الإنسان حتى تهلكه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٨٢] أي: من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له].
الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما يروى عن بعض السلف أن النار تفنى، فهذا محمول عند بعض أهل العلم على نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم إن الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت.
وليس بصحيح ما ينسب إلى شيخ الإسلام وابن القيم أن النار تفنى، وليس أيضاً بصريح، فـ ابن القيم في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر يخالفه، ويحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.