تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو)
قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٣ - ١٢٦].
قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً، أي: من الجنة كلكم، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة.
{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:٣٦] قال: آدم وذريته وإبليس وذريته.
وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه:١٢٣] قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان].
يعني: هذا هو الهدى الأنبياء والرسل، والبيان الذي جاء في كتب الله المنزلة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة].
الله تعالى تكفل لمن عمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، والدليل هذه الآية: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:١٢٣]، فمن اتبع هدى الله، وآمن بكتبه المنزلة، وآمن برسوله الذي أرسل إليه في أي زمان؛ فإنه موعود بالهداية، وهو من المهديين الذين لا يضلون في الدنيا، ولا يشقون في الآخرة.
ومن أعرض عن هدي الله، وعن كتابه، وعن نبيه الذي أرسله إليه في أي زمان، فإنه شقي في الآخرة، وضال في الدنيا، وله المعيشة الضنكا، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)) أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: ضنك في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك].
وهذا واقع؛ فإن الكفرة الآن وإن توصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاختراعات الحديثة، والتطور وما وصلوا إليه من التقنية؛ فإنهم في معيشة ضنكا، فلا يجدون راحة في نفوسهم، ولا طمأنينة، بل يجدون ضيقاً وحرجاً، ويملون حياتهم، ويسأمونها؛ ولهذا نسمع عن الانتحارات كثيراً، وهم قد وصلوا إلى ما وصلوا، وعندهم آلاف والملايين من الأموال، ومع هذا لم يسعدوا بها.
فالكافر قد يكون عنده تقدم في العلم، وعنده شهادات علمية، لكن عنده ضيق وحرج؛ لأنه ليس عنده إيمان ولا هدى، وقلبه خالٍ من الإيمان والهدى؛ فيعيش عيشة ضنكاً، ويمل الحياة ويسأمها، وتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وهو عنده الأموال، وعنده كذا، وعنده من الجاه؛ لكنه لما لم يكن في قلبه هدى ويقين ضاق صدره، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصار في ضنك وقلق وعدم راحة وطمأنينة، نسأل الله السلامة والعافية.
والمؤمن قد يصاب بالهموم، فيكفر الله بها عنه من الخطايا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا غم إلا كفر الله من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها) فقد يكون الإنسان عنده هموم وغموم لكن مع ذلك فالمؤمن عنده راحة وطمأنية، وثقة بالله عز وجل، وبوعده وبما أعده للصابرين من الكرامة والأجر، فهو يعلم أن هذه الهموم وهذه المصائب وهذه النكبات يكفر الله بها من خطاياه، ويرفعه بها درجات، فيطمئن، وإن كان فقيراً، وإن كان مريضاً، ويكون قلبه منشرحاً مطمئناً راضياً بالله عز وجل؛ لما يعلم ما عند الله من الكرامة، ففرق بين المؤمن والكافر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: الشقاء، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: كل مال أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة].
وهذا مما يؤيد حال بعض الأغنياء الذي لا يتقي ربه فيما أعطاه بل يعصي ربه، فيكون وبالاً وضنكاً عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به، اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك.
وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث.
وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله: ((مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه.
وقال أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياض يكنى أبا سلمة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: (ضمة القبر له)، والموقوف أصح].
رواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة -واسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيمَ أنزلت هذه الآية: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا))؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده! إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رءوس ينفخون في جسمه، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون) رفعه منكر جداً.
وقال البزار: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:١٢٤] قال: (المعيشة الضنك التي قال الله: أنه يسلط عليه تسعاً وتسعين حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة).
وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:١٢٤] قال: (عذاب القبر)، إسناد جيد.
وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] قال مجاهد وأبو صالح والسدي: لا حجة له.
وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم.
ويحتمل أن يكون المراد: أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:٩٧]، ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:١٢٥] أي: في الدنيا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٦] أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:٥١]؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك].
مراد المؤلف رحمه الله: أن من أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن آيات الله، ولم يعمل بكتاب الله، فإن عليه الوعيد الشديد: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤]، نسي آيات الله فنسيه الله، يعني: نسي آيات الله فلم يعمل بها، فعومل معاملة المنسي؛ جزاء وفاقاً، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:٥١].
والمراد بالنسيان لآيات الله عدم العمل بها، وارتكاب النواهي، وعدم تنفيذ الأو