[عظم بعض مخلوقات الله]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:٣١] أي: لئلا تميد بهم، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:٣١]].
هذا قد يستدل به لمن قال: إن الأرض ثابتة، وأنها قارة وليست متحركة، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:١٥]، وقد نقل القرطبي إجماع العلماء على أن الأرض قارة ثابتة، وكذلك نقله ابن القيم، وفيه رد على أهل الهيئة الذين يقولون: إن الأرض متحركة، وأنها تدور، ويقولون: إنها متحركة، وإن كانت متحركة حركة لا تؤثر، لكن هذا خلاف الظاهر، وظاهر النصوص تدل على أن الأرض ثابتة قارة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:٣١] أي: ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض، يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد، وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة لغيره، ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:٣١].
وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء:٣٢] أي: على الأرض، وهي كالقبة عليها، كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:٤٧]، وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:٥]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦]، والبناء هو: نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) أي: خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام على ما تعهده العرب {مَحْفُوظًا} [الأنبياء:٣٢] أي: عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد: مرفوعاً.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما هذه السماء؟ قال: هذا موج مكفوف عنكم)، إسناده غريب.
وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:٣٢] كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:١٠٥] أي: لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها، وفي النهار من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يُرى لغيره].
أي: ما حصل له شيء مما يحصل لغيره، وكان الواحد منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، وهذا تعبد ثلاثين سنة ولم تظله غمامة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: يا بني! فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه؟ فقال: لا والله ما أعلم، قالت: فلعلك هممت؟ قال: لا والله ولا هممت، قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال: نعم، كثيراً، قالت: فمن هاهنا أتيت.
ثم قال منبهاً على بعض آياته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:٣٣] أي: هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام:٩٦]، هذه لها نور يخصها وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخر، وفلك آخر، وسير آخر وتقدير آخر {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠]].
كل واحد منهما له سير، وكل واحد منهما له فلك، كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:٣٣]، والشمس دورتها في اليوم، والقمر دورته شهرية، فكل شهر يدور يخرج من المغرب ثم ينتهي إلى المشرق.
وإذا كانت الدورة الكاملة يبدأ من المغرب هلالاً فيتنقل، ولا يزال يكبر حتى يكون في منتصف الشهر، فيكون تمامه، ثم لا يزال ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضعف، وهذا في نوره، وفي الدورة الشهرية، ونوره في السموات، كما أن نوره في الأرض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وكذا قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:٩٦]].