[تفسير قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وذلك أنهما عَلِما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعاً في السماء، فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع؟ وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة -أي: بلاء ابتلينا به- فلا تكفر.
وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه، وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، الآية].
احتج جمهور العلماء على كفر الساحر بقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، أي: فلا تكفر بتعلم السحر، ودلت الآية على أن تعلم السحر وتعليمه كفر، والمراد به السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين، فإنه لا بد فيه من أن يفعل الكفر؛ لأن هناك عقداً بين الشيطان والساحر، ومقتضى هذا العقد أن يكفر الساحر -والعياذ بالله- بأن يتقرب للشيطان بشيء من العبادة التي هي من خصائص الله، أو يطلب منه أن يمزق المصحف، أو يبول عليه، أو يلطخه بالنجاسة، أو يتكلم بكلمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، فإذا كفر الساحر علمه الشيطان السحر، واستجاب لمطالبه، فيأتيه بالأخبار المغيبة عن البلد، وإذا أمره أن يلطم شخصاً لطمه، أو يقتله قتله، وما أشبه ذلك، وهذا من الابتلاء، والله تعالى أنزل الملكين وأمرهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فله الحكمة البالغة، فهو يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والأخيار بالأشرار والأشرار بالأخيار، فله الحكمة البالغة فيما أراده سبحانه وتعالى من الابتلاء والامتحان ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
ومن الحكم ظهور قدرة الله سبحانه وتعالى على وقوع المتضادات، فالساحر الكافر يقابله المؤمن المطيع، والكافر يقابله المؤمن، والعاصي يقابله المطيع، والليل يقابله النهار، والحر يقابله البرد، والعدو يقابله الصديق، والحرارة تقابلها البرودة، والرطوبة تقابلها اليبوسة، والملاسة تقابلها الخشونة، وغير ذلك من المتقابلات، وذات إبليس التي هي مصدر كل شر وبلاء يقابلها ذوات الأنبياء والملائكة والصالحين، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:٦].
والله تعالى أعذر وأنذر، وبعث الرسل إلى الناس لتوحيد الله وليحذروهم أسباب سخط الله، ولرد فطرتهم إلى الحنيفية، ولكن الشياطين اجتالتهم وصرفتهم عن دينهم مع أن الله آتاهم الأسماع والأبصار والأفئدة.
وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ابتلائه وامتحانه، وفي تقديره الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والخير والشر، فهو سبحانه وتعالى -كما قال- {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، لكمال حكمته وعلمه وقدرته سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر].
هناك نوع آخر من السحر لا يتصل صاحبه بالشرك، وهو سحر الأدوية والتدخينات، وهذا لا يتصل صاحبه بالشياطين، لكنه يضر بالناس في أبدانهم وأموالهم، فيدعي المعرفة ويسلب أموال الناس بالباطل، كما يفعل بعض الناس ممن لا علم عنده، ولا يتصل بالشياطين، ولكنه يأكل أموال الناس بالباطل، فيفتح محلاً، ويقول: إنه يعالج الناس، وكل من أتاه يعطيه علاجاً، فيعطيه شيئاً يدهن به وآخر يشربه وآخر يستنشقه، وقد يضر بأجسام الناس، وهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل، واستحل إيذاءهم وضررهم كفر، وإن لم يستحله ففعله محرم وكبيرة، وإذا رفع إلى ولي الأمر فإنه يستتيبه، فإن تاب وإلا عزره بما يراه رادعاً، وقد يصل التعزير إلى القتل بحسب نظر الحاكم الشرعي، هذا إذا كان صاحبه لا يتصل بالشياطين، أما السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين فهذا حده القتل، وحد الساحر ضربه بالسيف.
قال بعض العلماء: إنه يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً، لهذه الآية: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، يعني: فلا تكفر بتعلم السحر، ويدل على ذلك غير هذه الآية كذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً].
أي: لما توفي أمير المؤمنين عثمان بن عفان حصل شر بموته وقتله رضي الله عنه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:١٥٥]، أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:١٥٥]، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر].
وهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، أما الشافعي -رحمه الله- فإنه فصّل وقال: إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، وإن وصف ما لا يوجب الكفر فإن استحله كفر، وإن لم يستحله فقد ارتكب محرماً وكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، والجمهور لم يدخلوا السحر في المسمى اللغوي، فلا حاجة إلى التفصيل؛ لأن الجمهور يقولون: إن الساحر كافر مطلقاً، وأما سحر الأدوية والتدخينات فلا يسمى سحراً شرعاً، ولكنه سحر من جهة اللغة، مثل النميمة تسمى سحراً لغة، وكذا القول البليغ، ومنه سمي السحَر سحَراً؛ لأنه يقع في آخر الليل.
وأما الشافعي فإنه لما أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر احتاج إلى التفصيل.
والمقصود أن ما كان سحراً من جهة اللغة وليس فيه اتصال بالشياطين لا يكفر صاحبه إلا إذا استحله، أما إذا كان الساحر يتصل بالشياطين فإنه يكفر، وعلى هذا فليس هناك خلاف بين الجمهور وبين الشافعي رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: (من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر].
قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه عنعنة الأعمش، ولكن الأئمة لا يعتبرون تدليسه، ولأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وله شواهد من الأحاديث المرفوعة، فله حكم الرفع، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث حفصة الذي رواه الإمام مسلم: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وفي رواية عند الإمام أحمد: (فصدقه)، فلهذا قال الحافظ: هذا إسناد صحيح.