[تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية)]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:١٠ - ١١].
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه: ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً))، أي: علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني، كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠].
((قَالَ آيَتُكَ)) أي: علامتك، ((أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب بن منبه والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض].
اعتقل لسانه عن كلام الناس خاصة دون غيره من الذكر وغيرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة].
{قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:٤١] آية آل عمران لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً يعني: إلا بالإشارة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: متتابعات، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح، كما قال تعالى في أول آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:٤١].
وقال مالك عن زيد بن أسلم: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا))، من غير خرس].
يعني: ليس أخرس، ولهذا قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:٤١].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها ((إِلَّا رَمْزًا))، أي: إشارة.
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم:١١] أي: الذي بشر فيه بالولد {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، أي: أشار إشارة خفية سريعة، ((أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا))، أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله وشكراً لله على ما أولاه].
فهذه الأيام يخصها بمزيد من التسبيح بكرة وعشياً، وأوحى إليهم أي: أشار، والوحي هو الإشارة الخفية، وفي هذه الآيات الكريمات بيان رحمة الله تعالى بعبده زكريا عليه السلام، وفيه استجابة الله لدعاء الأنبياء وغيرهم وأن الله تعالى يستجيب الدعاء، وأن الله يحب الملحين في الدعاء.
وفيه فضل الدعاء الخفي وذلك في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:٣]، وأنه أفضل من الدعاء الذي يجهر به الإنسان، وهذا عام في جميع العبادات، كالقراءة والصدقة والدعاء، فما كان سراً فهو أفضل من العلن إلا إذا كان تبعاً فيه مصلحة، ولهذا قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:٥٥]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف:٢٠٥].
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل إلى الله بالوسائل الشرعية كما توسل زكريا بالربوبية، فقال: رب، وكما توسل بضعفه وحاجته.
وفيه أن الأنبياء لا يورثون، وفيه أن زكريا عليه السلام سأل ربه ولداً يرثه النبوة وسياسة الناس بالشرع.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يكون همه للآخرة أعظم من همه للدنيا، وأن يكون طلبه للآخرة أعظم من طلبه للدنيا، اقتداء بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وفيه كما سبق فضل العمل، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون بيده مهنة يعمل فيها، ولهذا كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً وكان داود حداداً، وسبق الحديث: (أن أفضل ما أكل المرء من عمل يده وكل بيع مبرور)، وجاء في الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، واليد العليا هي اليد المنفقة والسفلى الآخذة، ولا تكون اليد العليا إلا إذا عمل الإنسان بيده عمل ليكف وجهه عن الناس، يكون نجاراً يكون حداداً يكون بناءً حراثاً زراعاً بياعاً يبيع ويشتري، ولا يكون كلاً وعالة على الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: فأوحى إليهم أي: أشار، وبه قال وهب وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم:١١]، أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي].