[تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)]
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٤ - ١٥].
هذا -أيضاً- من أوصافهم، وهو أن لهم وجهاً عند المؤمنين ولهم وجهاً آخر مع أصحابهم، فإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما هم عليه من الكفر، فلهم وجهان، ويتلونون بلونين: لون عند المؤمنين ولون عند الكافرين، نسأل الله العافية.
فهم إذا ذهبوا إلى اليهود، أو إلى أصحابهم، أو إلى المشركين أظهروا الكفر، وإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإنما فعلوا ذلك لتسلم نفوسهم، ولتسلم أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، وسبيت أموالهم، فيظهرون الإسلام حتى تجرى عليهم أحكام الإسلام ويسلموا من القتل.
قال المصنف رحمه الله: [وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعةً وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم].
أي أنهم إنما يفعلون ذلك لكي تجرى عليهم أحكام الإسلام، فهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه، فإذا جاهدوا حصل لهم ما حصل للمؤمنين من الغنيمة، فهم لهذا يظهرون الإسلام حتى تسلم نفوسهم وأموالهم، وحتى يشاركوا المسلمين في المغانم والغزوات والسرايا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم.
فضمن (خلوا) معنى: (انصرفوا) لتعديته بـ (إلى)؛ ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به.
ومنهم من قال: (إلى) هنا بمعنى: (مع) والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.
وقال السدي عن أبي مالك: (خلوا) يعني: مضوا، و (شياطينهم) يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين.
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] يعني: هم رءوسهم من الكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (وإذا خلوا إلى أصحابهم) وهم شياطينهم.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.
وقال مجاهد: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤]: إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.
وقال قتادة: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:١٤] قال: إلى رءوسهم وقادتهم في الشرك والشر.
وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس.
قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢]].
فالشيطان هو كل من تمرد من البشر والدواب والجن، فالكافر شيطان، ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، ولهذا جاء في الحديث: (يقطع صلاة الرجل -إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل- الحمار والكلب الأسود والمرأة)، فقال الراوي لـ أبي ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الكلب الأسود شيطان).
فهو شيطان لأنه متمرد خرج عن طبيعته، فكل جنس له شياطينه، وهم المتمردون الخارجون عن طبيعة جنسهم بالأذى، ولهذا قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:١١٢].
والجن فيهم شياطين، وهم الكفرة، ومن أسلم منهم لا يسمى شيطاناً، والإنس فيهم شياطين، وهم المتمردون من الفسقة وأهل الشر وأهل الكفر والضلال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن.
فقلت: يا رسول! أوللإنس شياطين؟! قال: نعم)].
الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال: حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر! هل صليت؟ قلت: لا.
قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن.
قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟! قال: نعم)، وذكر الحديث.
والمسعودي ضعيف واختلط، ولكن لا شك في أن من الإنس شياطين، كما في الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:١١٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:١٤] قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
وقال الضحاك عن ابن عباس: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة].