[إملاء الله تعالى وزيادته للمنافقين في طغيانهم]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك، قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس، حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:١٥] قال: يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥] قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (يمدهم) يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:٥٥ - ٥٦].
وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٢] قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:٤٤ - ٤٥].
قال ابن جرير: والصواب: نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:١١٠].
والطغيان: هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:١١].
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥]: في كفرهم يترددون.
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم.
قال ابن جرير: والعمه: الضلال، يقال: عمه فلان يعمه عمهاً وعموهاً: إذا ضل.
قال: وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:١٥] في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.
وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب.
وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] وتقول: عمه الرجل، يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه: عُمَّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت].