[تفسير قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي)]
قال الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤١ - ٤٤].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه يرعى على صهره].
أي: يرعى الغنم، وهذا حسب الاتفاق الذي كان بينه وبين صهره أنه يرعى الغنم ثماني سنين فيكون منه هذه المنفعة مهراً لزواجه.
قوله: يرعى على صهره: الكلام مختصر، والمعنى: لأجل الاتفاق الذي حصل بينه وبينه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى انتهت المدة، وانقضى الأجل، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]].
في هذه الآية يقول الله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]، وهي دليل على إثبات القدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يعمله العباد بقدر، جاء في الحديث: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، أي: حتى العجز والكسل الذي يصيب الإنسان والكيس والجد والنشاط كله بقدر، وكذلك كل شيء يعمله العباد، وكل شيء في هذا الوجود مما يعمله الناس، ومما يعمله الدواب والحيوانات والملائكة خلقهم وإيجادهم وذواتهم وصفاتهم وأفعالهم، وكل حركة وسكون في هذا الوجود وكل رطب ويابس هو مكتوب في اللوح المحفوظ.
قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢]، والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:٧٠]، قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢].
ومن ذلك ما في هذه الآيات الكريمة من لبث موسى في مدين عشر سنين، ثم إرسال الله عز وجل له وإعطائه النبوة والرسالة، وإرساله إلى فرعون كل هذا بقدر؛ ولهذا قال سبحانه: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]، ليس صدفة، ولا شيء مستحدث وجديد لم يكتب في الأجل، بل شيء مكتوب ومقدر.
فالله تعالى علم أعمال العباد وأفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).
ولما سأل الصحابة رضوان الله عليهم: (قالوا: يا رسول الله! ما يعمله العباد أشيء فرغ منه؟ أم شيء يستقبلونه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل فرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ - مادام مفروغ منه- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٥ - ١٠]) فهذا ميسر لليسرى وهذا ميسر للعسرى.
وكل شيء من خير وشر من طاعات ومعاصي من حركة وسكون من ذوات وصفات كلها مقدرة ومكتوبة ولا يوجد شيء يخرج عن القدر.
وهو قدر كوني وقدري، قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]، فهو كوني لأن الله قدره، وهو شرعي لأن الله أرسل وقدر شرعاً، وأمرهم شرعاً بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]].
كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:٢٢]، هو المسير لعباده ومخيرهم، وقد يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: الإنسان مسير ومخير جميعاً، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:٢٢]، وهذه كلمة مستحدثة ما كان الناس يعرفونها، لكن استحدثها بعض الناس وصاروا يسألون: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: مسير ومخير، فهو مسير؛ لأن الله قدر كل شيء، ومخير؛ لأن العبد له قدرة واختيار ومشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩].
فالعبد له قدرة ومشيئة واختيار إلا أنها تابعة لمشيئة الله.
فإن قيل: ما حكم إطلاق لفظ: صدفة عند اللقاء بغير ميعاد؟ قلنا: إذا كان مقصودك أنه بالنسبة لك فجائز، هذا بالنسبة بيني وبينك، وبين البشر بعضهم بعضاً.
أما بالنسبة لله فلا يوجد شيء اسمه صدفة، بل كل شيء مقدر، فإذا قصد بالنسبة لله نقول: هذا باطل، أما بالنسبة للمخلوق أي: بيني وبينك تقول: صدفة، فجائز، لأني لا أعلم شيئاً، والمخلوق ضعيف ناقص، وأنت كذلك لا تعلم، وليس بيننا ميعاد، ولا اتفاق سابق فقابلتك صدفة.
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:٤٠]؟ أرسل الله موسى إلى فرعون على قدر بعدما لبث في مدين على قدر قدره الله قدراً وشرعاً.
وموسى لا يعلم أنه سيعود، فبعد أن رعى الغنم عشر سنين وذهب بأهله في يوم بارد، وضل الطريق، فرأى ناراً عند جبل الطور وكان في يوم شات بارد وليلة مظلمة، ولا يجد من يدله على الطريق فقال لأهله: امكثوا في هذا المكان وسآتي هذه النار فإما أن أجد عندها أحداً يدلنا على الطريق، أو على الأقل نأخذ منها جذوة من النار نستدفئ بها من البرد، فلما جاء إلى الجبل نبأه الله وأرسله، وهو لا يعلم قبل ذلك، لكن الله أكرمه بالرسالة.