[تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب)]
يقول تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:٦١ - ٦٣].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن، أي: جنات الإقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب.
أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:٦١] تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله كقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:١٨] أي: كائناً لا محالة.
وقوله ههنا {مَأْتِيًّا} [مريم:٦١] أي: العباد صائرون إليه وسيأتونه.
ومنهم من قال {مَأْتِيًّا} [مريم:٦١] بمعنى آتياً؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى واحد.
وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:٦٢] أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا.
وقوله: {إِلَّا سَلامًا} [مريم:٦٢] استثناء منقطع كقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:٢٥ - ٢٦]].
استثناء منقطع؛ لأنه مستثنى من غير مستثنى منه، ويمثل النحاة لهذا مثل قولهم: قام القوم إلا حماراً، وقام الرجال إلا حماراً، هذا يسمى استثناءً منقطعاً، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه.
وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا} [مريم:٦٢] السلام غير اللغو والاستثناء المنقطع بمعنى: (لكن)، أي: لا يسمعون فيها لغواً لكن يسمعون سلاماً.
قال: [وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] أي: في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار].
قوله: يعني {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] يعني: بمقدار وقت البكرة وبمقدار وقت العشي؛ لأن الجنة ليس فيها ليل ولا نهار، بل نهار مطرد، ولكن يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر لهم تحت العرش تكون بمقدار وقت البكرة ومقدار وقت العشي.
فقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] يعني: بمقدار وقت أول النهار وآخر النهار، يعرفون ذلك بأنوار تحت العرش، وإلا فليس في الجنة ليل بل نهار مطرد.
قال: [كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولايتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض)].
نسأل الله أن يجعلنا منهم، هؤلاء أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أي: ليلة أربع عشرة أو خمس عشرة، لا يبولون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يموتون ولا يمرضون ولا يسقمون وليس عندهم هموم ولا أحزان، صحة دائمة وشباب دائم، وطهارة دائمة، وسعة صدر دائم، نزع الغل من نفوسهم بعدما اقتص بعضهم من بعض قبل دخول الجنة، قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧].
لكل واحد منهم زوجتان، يعني: هذا عام لكل واحد، وليس في الجنة أعزب، ولكل واحد منهم زوجتان، يعني: سوى زوجته في الدنيا، فقد يكون الإنسان له زوجات كثيرة، لكن هذا بالنسبة للعموم كل واحد مهما كانت درجته له زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الصفاء، ويرى وجهه في صدرها كالمرآة، ويرى مخ ساقها من وراء الثياب.
قال: [قال: (قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا)].
نسأل الله الكريم من فضله، يسبحون الله بكرة وعشياً، يعني: بمقدار البكرة والعشي، وهذا التسبيح ليس تكليفاً وإنما هو نعيم يتنعمون به، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس، وكما أن الإنسان يتنفس ويتلذذ بالتنفس وهو راحة له، فكذلك أهل الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:١٠] فالجنة ليس فيها تكليف، لكن هذا نعيم يتنعمون به.
قال: [أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق -نهر بباب الجنة- في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً) تفرد به أحمد من هذا الوجه].
وهذا يعني: قبل القيامة، وفي الحديث الآخر: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها) وذلك لما بذل الشهداء أجسادهم لله فقتلوا في سبيل الله، عوض الله أرواحهم أجساداً يتنعمون بواسطتها، جعلت في حواصل طير خضر.
فالمؤمن إذا مات بقيت روحه في الجنة تتنعم، وروح الكافر تنقل وتقذف في النار، والجسد جرى له ما قدر له، والروح لها صلة بالجسد، فالشهداء تتنعم أرواحهم في الجنة بواسطة طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم لله وأبلوها في سبيله، فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر.
أما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها مفردة فتأخذ شكل طائر كما في الحديث: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة، يأكل من أشجارها حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) (نسمة المؤمن) يعني: روح المؤمن، طائر: على شكل طائر، (يعلق): يأكل في الجنة، (حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه).
هذا المؤمن غير الشهيد، أما الشهيد فإن روحه تتنعم بواسطة طير خضر (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها حتى يبعث الله أجسادهم وهم على النهر).
قال: [وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] قال: مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب.
وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتفهم انفتحي انغلقي فتفعل].
يعني: يكلمونها في الجنة فتجيب.
قال: [وقال قتادة في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثم ليل ولا نهار وإنما هو ضوء ونور.
وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي ولكن يأتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى، فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢].
وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:٦٢] قال: البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شماط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران) قال أبو محمد: هذا حديث غريب منكر].
فيه منصور بن عمار، قال في الجرح والتعديل: ليس بالقوي صاحب هوى.
وفيه نكارة من جهة المتن، كل غدوة تزف إلى الإنسان زوجة من الحور العين، والغدوات كثيرة إلى ما لا نهاية، وإن كان فضل الله واسعاً، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت بالدليل الصحيح.
وغُدوة بالضم كالُبكرة أي: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والغداة: تجمع على غدوات وغديات وغدايا وعشي، أي: لا يقال: غدايا إلا مع عشايا، وغدا عليه غدواً وغُدوة بالضم.
قال: [وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُور