للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً)

قال الله تعالى: [{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:١٠٢ - ١٠٤].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: (قرن ينفخ فيه)، وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قرن عظيم، الدائرة منه بقدر السموات والأرض ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام].

الصور فيه دوائر، والدائرة مثل أطباق السماوات والأرض، فينفخ فيه إسرافيل بأمر الله عز وجل، ينفخ فيه نفختين: النفخة الأولى تسمى نفخة الصعق والموت، فأولها فزع وآخرها صعق وموت، فأول ما ينفخ في الصور يخرج صوت ليس بقوي، ولا يزال الصوت يقوى يقوى يقوى حتى يموت الناس، فأوله فزع، كما قال سبحانه في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:٨٧]، وآخره صعق وموت كما قال تعالى في سورة الزمر قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨]، فإذا مات الناس بقوا أربعين، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة قوية، وتبدل الصفات، وتبقى الذوات كما هي، فإذا تم خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، فتتطاير الأرواح إلى أجسادها، وتدخل كل روح في جسدها، فيقوم الناس فينفضون التراب عن رءوسهم للحساب، ويقفون بين يدي الله، وهذا هو معنى قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].

وجاء في حديث الصور أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة البعث، ونفخة الموت، لكن الحديث ضعيف، والصواب أنهما نفختان، لكن الأولى طويلة، وأولها فزع وآخرها صعق وموت، ثم النفخة الثانية نفخة البعث.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجاء في الحديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له فقالوا: يا رسول الله! كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)].

والمقصود بصاحب القرن: إسرافيل عليه الصلاة والسلام.

وقد ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام، وقال: هذا حديث غريب، وقد أخرجه الترمذي عن عطية عن أبي سعيد، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال صاحب تحفة الأحوذي: وأخرجه الحاكم وصححه.

قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي سعيد هذا: وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة، ولـ أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفي أسانيد كل منها مقال، فإذا كانت الأسانيد كلها تدور على من فيه مقال فلا فائدة منها، وإن كانت متعددة الأسانيد فإن بعضها يشد بعضاً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}، قيل: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال].

وهذا وصف المجرمين نسأل الله العافية: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:١٠٢] أي: زرق العيون من شدة الأهوال التي تصيبهم، أما المؤمن فإنه لا يصيبه ذلك، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:٨ - ١٠]، نسأل الله العافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتسارون بينهم، أي: يقول بعضهم لبعض: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)) أي: في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها.

قال الله تعالى: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ)) أي: في حال تناجيهم بينهم، ((إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: العاقل الكامل فيهم، ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) أي: لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد].

يعني: ذهبت الدنيا وكأنها يوم.

((يَتَخَافَتُونَ)) يعني: يتناجون سراً فيما بينهم ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)).

قال الله: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: أحسنهم عقلاً يقول: ما لبثتم إلا يوماً واحداً، فالدنيا قلت في نفوسهم لما رأوا الأهوال.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن الدنيا كلها، وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة، وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة].

قصدهم من قولهم: إن الدنيا قصيرة لكي لا تقوم عليهم الحجة، ولهذا إذا سألهم الله يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٥] قصدهم من هذا: إنكار طول المدة؛ حتى لا تقوم عليهم الحجة، والحجة قائمة عليهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:٥٥ - ٥٦]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧]، وقال تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:١١٢ - ١١٤] أي: إنما كان لبثكم فيها قليلاً لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي].