للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الإيمان عند أهل السنة وغيرهم]

قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣].

قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق.

وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٣]: يصدقون.

وقال معمر عن الزهري: الإيمان: العمل.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:٣]: يخشون.

قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل].

الحق كما قال ابن جرير رحمه الله، وهو الإيمان يشمل القول والعمل والاعتقاد.

وأصل الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم يتبعه العمل، وخلاصته الخشية لله عز وجل، فالإيمان أصله التصديق، ويدخل فيه قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب، وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما قال ابن جرير رحمة الله عليه: الإيمان قول واعتقاد وعمل، فلهذا يقال: الإيمان عمل ونية، فعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والرغبة والرهبة، وعمل الجوارح معلوم، وأقوال اللسان والقلب كل ذلك داخل في مسمى الإيمان، خلافاً للمرجئة القائلين بأن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الأعمال فيخرجونها من مسمى الإيمان، وهذا غلط، وقد قال بهذا المرجئة المحضة، وهم الجهمية، وقال به مرجئة الفقهاء، وهم أبو حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة، فأهل الكوفة قالوا: الإيمان التصديق، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان، لكنه مطلوب.

وقال أهل السنة والجماعة قاطبة ما عدا مرجئة الفقهاء: الإيمان التصديق والعمل، وكلاهما داخل في مسمى الإيمان، وكلاهما واجب.

وقال الأحناف: العمل واجب آخر، فالإيمان شيء والعمل شيء آخر، وكلاهما واجبان.

وأما المرجئة المحضة وهم الجهمية فيقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه كفى.

وهذا من أبطل الباطل، فهم ما قالوا: الإيمان التصديق، وإنما قالوا: الإيمان المعرفة، وعلى هذا ألزمهم أهل السنة والجماعة بأنه يدخل جميع الكفرة المعترفين بهذا في الإيمان، فإبليس عارف بربه، وفرعون عارف بربه، واليهود عارفون بربهم، وأبو طالب عارف بربه، وهؤلاء كفار بالإجماع، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل.

قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:٦١]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:١٧].

وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال، كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧]، فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً].

أبو عبيد هو القاسم بن سلام الفقيه صاحب كتاب (الأموال)، وأما أبو عبيدة -بالتاء- فهو معمر بن المثنى اللغوي المعروف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص].

وهذا هو الذي عليه عامة أهل السنة، وهو الصواب، وإن كان الإيمان أصله في اللغة التصديق، لكن الإيمان الشرعي لابد فيه من أعمال القلوب والجوارح مع اعتقاد القلب وتصديقه وإقراره واعترافه، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة].

الحافظ ابن كثير رحمه الله له شرح على البخاري، وما أدري هل وجد منه شيء أم لا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من فسره بالخشية، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:٤٩].

وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:٣٣].

والخشية: خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨].

وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤].

وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١].

فعلى هذا يكون قوله: (بالغيب) حالاً، أي: في حال كونهم غُيَّباً عن الناس].

الخشية هي: خوف مع علم، فهي أبلغ من الخوف، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]؛ لأن الخشية الكاملة تكون للعلماء، وإلا فكل مؤمن يخاف الله عنده أصل الخشية، والخشية الكاملة هي خشية العلماء، وفي مقدمة العلماء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.