للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها)]

قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:٥٧ - ٥٩].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها؟! أي: تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي: من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: قلوب هؤلاء (أَكِنَّةً) أي: أغطية وغشاوة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أي: صمماً معنوياً عن الرشاد (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)].

وهذا -نسأل الله العافية- بسبب عنادهم وكفرهم وعدم قبولهم للحق، فقد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي: غشاوة وغطاء معنوياً يمنعهم من قبول الحق؛ بسبب عدم قبولهم للحق لما جاءهم وردهم له، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:٥]، وكما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:١١٠]، فلما جاءهم الحق ووضحه الله لهم وردوه عن بصيرة لا عن جهل عاقبهم الله، وجعل على قلوبهم أكنة، فلا يفقهون هذا القرآن، نسأل الله العافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، أي: ربك -يا محمد- غفور ذو رحمة واسعة (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:٤٥]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:٦]، والآيات في هذا كثيرة شتى.

ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها، ولهذا قال: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:٥٨].

أي: ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل.

وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:٥٩]، أي: الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم.

{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:٥٩]، أي: جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين، لا يزيد ولا ينقص.

أي: وكذلك أنتم -أيها المشركون- احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر].

وهذا فيه تهديد ووعيد لكفار قريش بأن الله سبحانه وتعالى مع كونه الغني ذا الرحمة لا يعاجلهم بالعقوبة، فهو غني وذو رحمة واسعة، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يحلم عليهم ويمهلهم، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:٥٨].

ثم بين سبحانه وتعالى أن الأمم السابقة أهلكهم الله بسبب ظلمهم وشركهم وعنادهم وتكذيبهم الأنبياء، وجعل لذلك وقتاً محدداً، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:٥٩].

يعني: فاحذروا -أنتم أيها الكفار- أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وعدم قبول الحق فيصيبكم ما أصابهم.