للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقوال المفسرين في حقيقة السلوى]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السلوى طائر يشبه بالسمانى، كانوا يأكلون منه.

وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السمانى.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال: السلوى هو السمانى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى.

وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك.

وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه.

وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت، وفي رواية عن وهب قال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى -وهو السمانى- مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء، فخبئوا للغد، فنتن اللحم، وخنز الخبز.

وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:٥٧].

وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:٦٠]].

الحاصل أن الله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل في التيه بنعم عظيمة، ذكّر الله بها أحفادهم وأولادهم الموجودين في المدينة في زمن نزول الوحي، فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:٥٧]، فهذه من نعم الله عليهم، وهم معاقبون في التيه لما امتنعوا من فتح بيت المقدس، وقال لهم موسى: احملوا عليهم حملة واحدة فقد وعدني الله بالنصر، {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١]، قاتلوا هؤلاء الكفرة العماليق، فأبوا ورفضوا وامتنعوا، وقالوا لنبيهم قولاً سيئاً قالوا: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:٢٦]، والتيه هي الصحراء التي بين فلسطين وبين مصر، كانوا يسيرون فيها ولا يهتدون إلى البلد، فقد حرمها الله عليهم تحريماً قدرياً، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:٢٦]، والتحريم يكون شرعياً ويكون قدرياً، فالتحريم القدري، مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢]، فتحريم المراضع على موسى تحريم قدري، وأما التحريم الشرعي فمثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:٣] وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:٢٣]، فهذا تحريم شرعي.

فحرم الله عليهم دخول البلد أربعين سنة يتيهون في الأرض، ومع ذلك لما صاروا في التيه أنعم الله عليهم بهذه النعم، ولكنهم قوم عتاة عصاة، فأنعم الله عليهم بالمن وهو ينزل عليهم كالزنجبيل، وهو إذا جعل مع غيره صار شراباً وصار فاكهة، والسلوى هو طائر يشبه السمانى، وهذا كالإجماع عند المفسرين، أو قول جماهير المفسرين؛ لأن هناك من يرى أنه غير اللحم، والصواب: أن السلوى طائر، وأن الزنجبيل غذاء.

وجعل الله الغمام مظللاً عليهم من حر الشمس، وهذه من نعمه عليهم، وكانوا يحملون معهم حجراً فيضربه موسى بعصاه فتنفجر منه اثنا عشر عيناً، لكل قبيلة ولكل سبط عين، حتى لا يتنازعوا، فهذه من نعم الله عليهم، ولهذا قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:٦٠].

ومع ذلك حصل منهم ما حصل من العتو والعناد، ولما انتهت الأربعون السنة وسار بأحفادهم يوشع بن نون الذي كان نبياً، وهو فتى موسى، فدخلوا بيت المقدس وقاتلوا العماليق، وكاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس من يوم الجمعة ليلة السبت، ويوم السبت هو يوم عيدهم، فحبس الله الشمس ليوشع بن نون فقال: (اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها عليهم، ووقفت حتى تم الفتح قبل أن يدخل يوم السبت)، وهذا الحديث ثابت في الصحيح، فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وهذه يلغز بها مسألة فقهية: من الذي حبست له الشمس؟ فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وجاء في أحاديث ضعيفة لا تصح أنها حبست لـ علي رضي الله عنه، لكنها لا تصح.

فدخلوا بيت المقدس، ومع ذلك لما دخلوا بيت المقدس قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:٥٨] كما سيأتي، فغيروا بالقول وبالفعل، فدخلوا على أستاهم يزحفون على أدبارهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:٥٨] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا، فغيروا وقالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فهذا من تغييرهم بالقول وبالفعل، ولهذا قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة:٥٩] يعني: عذاباً {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:٥٩]، فهذا من عتوهم وتمردهم وعنادهم لأنبيائهم، نسأل الله السلامة والعافية.

وأما أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم خير أصحاب الأنبياء؛ فإنهم صبروا رضي الله عنهم، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في ساعة العسرة، وكانوا في شدة عظيمة، وجوع شديد، ومفازة عظيمة، وأصابهم جهد من قلة الطعام، ولم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل، بل قالوا: (يا رسول الله! لو جمعنا ما عندنا من الطعام فدعوت لنا، فجمعوا ما عندهم من الطعام، فدعا وبرك، وبارك الله فيه وملئوا كل وعاء)، وكذلك لما قل الماء أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماء قليل فوضع أصابعه فيه فنبع الماء من بين أصابعه، فتوضئوا واغتسلوا وملئوا كل وعاء رضي الله عنهم وأرضاهم.

وفي يوم بدر قالوا لنبيهم: (لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وأمامك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي.

وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن].

قوله: (لا تخرق ولا تدرن) يعني: لا تتقطع ولا تتدنس، والدرن هو الدنس، وهذا من أخبار بني إسرائيل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسداً.

قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل].

يعني: قول الأكثر؛ لأن هناك اختلافاً كما سيأتي؛ فالمقصود بالإجماع قول الأكثرين، والصواب أن السلوى طائر.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنشد في ذلك مستشهداً: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها].

في القرطبي: إذا ما نشورها.

أنشد الهذلي هذا البيت على أن السلوى طعام وليس طائراً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فظن أن السلوى عسل.

قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرج بن عمرو السدوسي أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به، ومنه عين سلوان.

وقال الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقول