[تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر)]
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤].
قال المصنف رحمه الله: [وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة، منها: حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام: (رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته) وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة].
أي: أن هناك طائفة من الملائكة يسمون الجن, خلقوا من نار السموم، والملائكة خلقوا من نور, والجن الذين هم أحد الثقلين: الجن والإنس، ومنهم إبليس، هم غير الجن الذين هم طائفة من الملائكة، فتكون كلمة الجن كلمة مشتركة بين طائفة من الملائكة، والجن الذين هم أحد الثقلين في الأرض.
قال المؤلف رحمه: [وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي].
أي: هذا الحي من الملائكة فإنهم خلقوا من نار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين].
فعلى هذا يكون الجن خلقوا من مارج من اللهب وهو لسان النار، وأما طائفة من الملائكة فخلقوا من نار السموم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠] يقول: إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الطيب من حمإ مسنون منتن].
والأقرب أن يكون الصلب؛ لأن هذا بمعنى اللازب، وهو موجود في ابن جرير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما كان حمأً مسنوناً بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:١٤] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً كالصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:١١] قال: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] بإلهام الله، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم، قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:٣٤] فسجدوا كلهم أجمعون {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:٣٤] لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً.
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] يقول: إن النار أقوى من الطين قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها].
هذا كله من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال: [ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:٣١] أي: يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:٢٣] إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم].
قوله: (موجدة الله) يعني: غضب الله عليهم، وهذا من أخبار بني إسرائيل.
وعند ابن جرير: (فلما علم الملائكة مؤاخذة الله).
ومؤاخذة بمعنى: موجدة، وسبق أن الملائكة إنما سألوا عن الحكمة وهذا لا يوجب الغضب، يعني: إن الله ما غضب عليهم أو آخذهم لأنهم سألوا عن الحكمة، فلم سألوا اعتراضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:٣٢] تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣٢] تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:٣٣] يقول: أخبرهم بأسمائهم، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:٣٣]، قال: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ)) أيها الملائكة خاصة {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:٣٣] ولا يعلم غيري {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة:٣٣] يقول: ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:٣٣] يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وهذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها].
هذا كلام صحيح، فالرواية من أخبار بني إسرائيل؛ لأن ابن عباس يأخذ عن بني إسرائيل.
وظاهر الآية العموم، فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:٣٤]، عام، والتخصيص يحتاج إلى دليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الإسناد إلى ابن عباس يرويه به تفسير مشهور.
وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن وإنما سموا الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة].
عند ابن جرير: فوقع في صدره كبر أو كبره.