للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)]

قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:٨٣ - ٨٤].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه؛ يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته؛ كانت تقوم بأمره، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)، وفي الحديث الآخر: (يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه) وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك].

يقال: أيوب الصابر، وصف الصبر لأنه كان ملازماً له عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد، ولم يبق له شيء أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني.

قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً].

يعني: فلقي إبليس من هذا شيئاً منكراً، لما علم بأن أيوب فرغ الله قلبه للذكر، فإن أيوب عليه السلام ذهب ماله وأهله وولده فبقي قلبه ولسانه، فحسده إبليس كيف يبقى قلبه ولسانه؟ يريد أن يستولي على قلبه ولسانه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيوب عليه السلام: يا رب! إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك، وإنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس! إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك.

رواه ابن أبي حاتم.

وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول].

يعني: في قصة ذهاب ولده وماله، وفيها أن إبليس قال: يا رب! سلطني على ماله، فسلط على ماله وأحرق الزرع وكذا، ثم قال: رب! سلطني على ولده، فجاءهم وأسقط عليهم الدار، ثم قال: رب! سلطني على جسده، فنفخ فيه فأصابه الجذام، قال: ولم يبق إلا قلبه ولسانه، إلخ القصة، وهي طويلة تقارب سبع صفحات، والأقرب أنها مأخوذة عن بني إسرائيل، والقصة هذه يذكرها أهل القصص، كالإخباريين فإنهم يذكرون قصص أيوب أنه كذا وأنه سلط عليه إبليس، وأنه سلط أولاً على ماله، وسلط على الزرع، وسلط على الدواب، وسلط على كذا، ثم سلط على الأهل، ثم سلط على الأولاد، ثم سلط على جسده، فالله أعلم، ولاشك أن الله ابتلى أيوب عليه السلام وأنه صبر، لكن هذه الأخبار التي فيها هذه التفاصيل هي مأخوذة عن بني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء.

وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.

وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه].

يعني: يكون عليه؛ فإن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب! لو دعوت ربك يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من ذلك، فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه].

يعني: أنه عليه السلام قلاه كل أحد، القريب والبعيد، ولم يبق إلا هذه الزوجة، فكانت تشتغل عند الناس وتعمل، فإذا كسبت الأجرة اشترت بها طعاماً ونفقة وأتت بذلك إلى أيوب عليه السلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن يشرب منه برئ، فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا: نحن فلان وفلان! فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء.

فقالا: يا أيوب! لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو يعلم، ما أسررت شيئاً أظهرت غيره، ولكن ربي ابتلاني؛ لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيوب! اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت.

قال: فغضب، وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام.

فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس، فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصاً، وكان ابنهم نائماً، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها، فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر.

قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله، فانطلقي به إليه، فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب الخطاء، فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله، لا يقبل منهم شيئاً غيره، فقالت: رحم الله أيوب، فدفعت القرص إليه ورجعت.

ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذباباً فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ، ويتوب بعد ذلك، فقالت ذلك لأيوب، فقال: قد أتاك الخبيث، لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة، فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق].

يعني: منع، منع منها الرزق، ولم تحصل على شيء؛ لحكمة بالغة أرادها الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها].

يعني: أنها كانت كلما جاءت أهل بيت قالوا: ما عندنا شيء، وما عندنا عمل؛ لحكمة بالغة، ولم تكسب شيئاً ذلك اليوم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما اشتد عليها ذاك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني.

فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضاً قرناً فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله! لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].

والضفيرة من الشعر قد لا يستفيدون منها شيئاً، ولكن هذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم به، وقد جاء في بعض أخبار بني إسرائيل: أن أيوب لما مرض كان لا يستطيع أن يقوم إلا بالضفيرة، وكل هذا من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي: أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: مسوط].

وفي رواية: (مبسوط).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].

وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان، فجاءا يوماً، فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما بعيداً، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا؛ فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان.

ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجداً، ثم قال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه].

لاشك أن الله كشف الضر عن أيوب، لكن هذا الحديث مروي عن عبيد بن عمير عن بني إسرائيل، أما كشف ضره فهو وارد بنص القرآن، كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:٨٣ - ٨٤]، فأيوب ابتلاه الله في أهله وماله وولده ونفسه، ثم عافاه الله وشفاه في جسمه ورد عليه أهله وماله وولده فضلاً منه وإحساناً، والله تعالى له الحكمة البالغة، قد يبتلى الإنسان، وقد يكون ذلك بذنب وقد يكون بغير ذنب، فالأنبياء والأخيار يبتلون لرفع درجاتهم، وأما غيرهم فكثير من الابتلاءات تكون بسبب المعاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَ