[تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)]
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:٥٥ - ٥٧].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار: إنهم لا يزالون في مرية، أي: في شك من هذا القرآن، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير وابن زيد: {مِنْهُ} [هود:١٧]، أي: مما ألقى الشيطان.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج:٥٥]، قال مجاهد: فجأة.
وقال قتادة: {بَغْتَةً} [الحج:٥٥]، بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:٥٥]، قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير.
قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة لا ليل له.
وكذا قال الضحاك والحسن البصري.
وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:٥٦]، كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤]، وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:٢٦]].
ففي هذه الآيات الكريمات بيان حكمة الله سبحانه، وأنه ما أرسل من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:٥٣].
وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:٥٤]، وقال: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج:٥٥].
وهذه من الحكم: أن الله تعالى يجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون والقاسية قلوبهم، وهم الكفار من اليهود والمشركين، وأما المؤمنون فيثبتهم الله، فيعلمون أنه الحق، فتخضع له قلوبهم.
قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} [الحج:٥٥]، أي: من هذا القرآن، والمرية: الشك، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:٥٥]، وهو يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل، وليس فيه ليل، ولكن فيه الشمس حارة، تدنو من الرءوس، فتكون قدر ميل من الرءوس، فيحصل للناس من الكرب والشدة ما الله به عليم، فيموج الناس بعضهم في بعض، ويذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يسألوا ربهم الشفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:٢٦].
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:٥٠]، أي: آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم].
قوله: (وتوافق) على حذف إحدى التائين، والتقدير: وتتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم.
وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:٥٠]، فيها جمع بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه العمل، ولكن عطف العمل عليه لأهميته، فيكون العمل ذكر مرتين: مرة يكون داخلاً في مسمى الإيمان، والمرة الثانية: في العطف، والإيمان يتحقق بالعمل الصالح وهو جزء من الإيمان.
والعمل الصالح: هو أداء الواجبات وترك المحرمات.
فإن قيل: إن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، قلنا: ليس كل عطف يقتضي المغايرة.
وقد يقال: إنه إذا عطف العمل على الإيمان صار غير داخل فيه، وإذا لم يعطف عليه دخل فيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:٩]، أي: لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الحج:٥٧]، أي: كفرت قلوبهم بالحق وجحدته وكذبوا به، وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:٥٧]، أي: مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠]، أي: صاغرين].