[تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)]
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:١٢٨ - ١٣٠].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ)) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد! كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:١٢٨] أي: العقول الصحيحة، والألباب المستقيمة، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦]، وقال في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:٢٦]].
وهذا مثل ديار ثمود؛ فإنهم شاهدوها في الحجْر على طريقهم، فلما مروا بها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير).
وهذا يدل على أنه لا ينبغي دخولها على سبيل المزاح واللعب، كما يفعل بعض الناس، فإنهم يدخلون ديار ثمود للفرجة والنزهة وللضحك، وهذا لا ينبغي، وإنما يكون على وجه الاعتبار والعظة والثبات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير.
فمن مر عليها أو دخلها على هذه الكيفية التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:١٢٩] أي: لولا الكلمة السابقة من الله، وهو أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة؛ لجاءهم العذاب بغتة، ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:١٣٠] أي: من تكذيبهم لك، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه:١٣٠] يعني: صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:١٣٠] يعني صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ هذه الآية].
والصلاة التي قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي صلاة العصر، وهذا فيه بشارة للمؤمنين، وأنهم يرون ربهم يوم القيامة.
وفيه دليل على أهمية هاتين الصلاتين، وأن إتيان هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) وتضامون بتخفيف الميم أو بتشديده، (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الفجر وقبل غروبها فافعلوا) يعني: أن ذلك من أسباب رؤية الله عز وجل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رويبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير به].
وقوله: (لن يلج النار) يعني: لن يدخل النار، (من صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها) وهما: صلاة العصر وصلاة الفجر، فليس المعنى أنه يهمل بقية الصلوات، بل المعنى: أنه من حافظ على هاتين الصلاتين، ولا بد أن يحافظ على بقية الصلوات، وإيمانه الذي يدفعه إلى العناية بهاتين الصلاتين سيدفعه للمحافظة على بقية الصلوات، وليس المراد أنه يصلي العصر ويصلي الفجر ويترك بقية الصلاة الصلوات؛ لأن من ترك صلاة واحدة كفر، والعياذ بالله! فالمعنى أنه يخص هاتين الصلاتين بمزيد من العناية، ويحافظ على بقية الصلوات، وهذا لا بد منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين)] وهذ الحديث في سنده ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف ليس بشيء، وفيه: (أن أدنى أهل الجنة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي) وهذا يعارض الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري: (أن آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها رجل يخرج وقد وُجه وجهه إلى النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار؛ فقد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيأخذ الله عليه العهود ألا يسأله غيرها، فيعطيه العهود والمواثيق، فيصرف الله وجهه، ثم ترفع له شجرة فيمكث ما شاء الله، ثم يقول: رب! ادنني، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود ألا تسألني غيرها؟ وربك يعذره، فلا يزال ترفع له شجرة بعد شجرة، حتى يصل إلى الجنة، فإذا قرب منها سكت ما شاء الله، ثم ترفع له الجنة فيرى ما فيها من النعيم، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟ فيقول: يا رب! لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله منه، قال له: ادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيقول يا رب! ما فيها مكان -مرتين أو ثلاثاً-، فيقول له الله: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: بلى، رضيت يا رب! فيقول الله: فإن لك ذلك ومثله ومثله -خمس مرات-، ثم قال: لك ذلك وعشرة أمثاله)، فهذه له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، هذا آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، له مثل ملك في الدنيا خمسين مرة.
وهذا الحديث فيه أن أدنى أهل الجنةلمن ينظر في ملكه وخدمه ألفي عام، يعني: هذا دون هذا، فهذا الحديث الصحيح يعارض هذا الحديث الذي فيه ثوير بن أبي فاختة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} [طه:١٣٠] أي: من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:١٣٠] في مقابلة آناء الليل {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:١٣٠]، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥].
وفي الصحيح (يقول الله: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟)].