[تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء)]
قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:٢٢ - ٣٥].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا برهان ثان لموسى عليه الصلاة والسلام وهو: أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:٢٢]].
وفي الآية الأخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:١٢] أي: آية أخرى.
قال المصنف رحمه الله: [وقال في مكان آخر: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:٣٢]].
برهانان: البرهان الأول: العصا، والبرهان الثاني: اليد، فهذه معجزتان لموسى، دليل على صدقه وأنه رسول من عند الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله: [وقال مجاهد: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:٢٢] كفه تحت عضدك، وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر، وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:٢٢] أي: من غير برص ولا أذى ومن غير شين.
قاله ابن عباس].
من غير شين، أي: من غير عيب.
قوله: (من غير شين)، أي: من غير عيب كالبرص وغيره من العيوب، فهي تتلألأ مثل القمر، وتلك معجزة له.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم.
وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل، ولهذا قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:٢٣].
وقال وهب: قال له ربه: ادنه، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة، فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه.
وقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٢٤] أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم؛ فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى.
قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وإن معك يدي وبصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني؛ لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي أني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكّره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألسبته من لباس الدنيا؛ فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني].
قوله: (يطرف) أي: ينظر بطرفه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديماً ما جرت عادتي في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا، واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقاً حقاً، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني، وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري.
رواه ابن أبي حاتم].
وكلام وهب بن منبه هذا مأخوذ من الإسرائيليات والله أعلم.